الأصدقاء أم الوقود؟ هل يمتلك النرجسي فعلاً “أصدقاء حقيقيين” على المدى الطويل؟ (دراسة تحليلية في النرجسية بالعربي)

الصداقة كـ “وظيفة” وليست كـ “قيمة”

تُعدّ الصداقة الحقيقية علاقة تبادلية أساسها الثقة، والتعاطف، والدعم غير المشروط. ولكن عندما يتعلق الأمر بـ النرجسي (Narcissist)، فإن هذا المفهوم يتشوه بشكل جذري. لا يرى النرجسي الآخرين كأقران أو ككيانات مستقلة؛ بل يراهم كـ “أدوات (Objects)” أو “مصادر” يجب استغلالها للحصول على الوقود النرجسي (Narcissistic Supply) اللازم لتغذية ذاته الزائفة الهشة. لذا، فإن السؤال “هل يمتلك النرجسي فعلاً أصدقاء حقيقيين على المدى الطويل؟” غالبًا ما تكون إجابته “لا”، ولكن هذه الإجابة تتطلب تحليلاً دقيقًا لديناميكيات الاستغلال.


المحور الأول: التعريف النرجسي للصداقة – العلاقة الأداتية

بالنسبة للنرجسي، تُعرّف الصداقة ليس بالقيمة الوجودية للشخص الآخر، بل بـ المنفعة التي يوفرها هذا الشخص.

١. غياب التعاطف العاطفي (Lack of Emotional Empathy):

  • الجوهر: لا يستطيع النرجسي تطوير التعاطف العاطفي (الشعور بما يشعر به الآخر)، وهو الركيزة الأساسية لأي صداقة حقيقية. يمتلك النرجسي فقط التعاطف المعرفي (قراءة المشاعر)، ويستخدمه لتحديد نقاط ضعف صديقه لاستغلالها لاحقًا.
  • النتيجة: عندما يمر “الصديق” بأزمة، يكون رد فعل النرجسي هو تحويل الحديث فورًا إلى نفسه أو تجاهل الأزمة، لأنها لا توفر له وقودًا إيجابيًا.

٢. العلاقة التراتبية (Hierarchical Relationship):

  • النظرة للآخرين: يرى النرجسي الصداقات على أنها تراتبية (هرمية)؛ يجب أن يكون هو دائمًا في قمة الهرم (الأذكى، الأكثر نجاحًا، الأكثر معاناة).
  • التنافس والحسد: أي نجاح يحققه الصديق المقرب يُنظر إليه كـ “تهديد نرجسي” (Narcissistic Threat)، مما يثير الحسد النرجسي ويُحوّل العلاقة إلى تنافس خفي أو صريح.

٣. الصداقة كـ “الوقود النبيذ”:

  • الوقود النرجسي: يتم اختيار الأصدقاء بناءً على نوع الوقود الذي يمكنهم توفيره:
    • الوقود الإيجابي: الإعجاب، المديح، المكانة الاجتماعية.
    • الوقود السلبي: الغيرة، الدراما، الغضب، أو استخدامه كـ “كبش فداء” لتفريغ الإحباط.

المحور الثاني: أنواع “الأصدقاء” في شبكة النرجسي

لا يبقى النرجسي معزولًا تماماً، بل يحيط نفسه بأشخاص يخدمون وظيفة محددة، مما يُعطي انطباعًا بأنه اجتماعي وناجح.

١. “الأصدقاء الأدوات” (Utility Friends):

  • التعريف: هم أشخاص يمتلكون شيئاً مادياً أو اجتماعياً يحتاجه النرجسي.
  • المنفعة: المال، النفوذ، العلاقات المهنية، أو مكانة اجتماعية عالية.
  • مدة العلاقة: تدوم هذه العلاقات طالما استمرت المنفعة. بمجرد أن يحصل النرجسي على ما يريد أو يتجاوز مكانة الصديق، يتم التخلص منه ببرود.

٢. “الأصدقاء المرآة” (Mirror Friends):

  • التعريف: هم أشخاص يتمتعون بصفات تُعزّز الصورة الذاتية للنرجسي أو يقلدونها.
  • المنفعة: الإعجاب المستمر، والمديح المفرط، والتأكيد الدائم على عظمة النرجسي. هؤلاء الأشخاص غالبًا ما يكونون “أشخاصاً يرضون الجميع” (People Pleasers) أو يفتقرون للحدود.
  • مدة العلاقة: تدوم طويلاً نسبياً، بشرط أن يظل الصديق مُطيعاً ولا يُوجه أي نقد أو يتفوق على النرجسي. يُعدّ هذا النوع هو الأقرب إلى “الوقود المريح”.

٣. “كبش الفداء” (Scapegoat Friends):

  • التعريف: هم أشخاص مُسالمون أو ضعفاء يتم اختيارهم لتلقي الإسقاط واللوم.
  • المنفعة: يُستخدمون كـ حاوية للعيوب النرجسية (الإسقاط) أو كـ موضوع دائم للانتقاد أو السخرية أمام الآخرين.
  • مدة العلاقة: يمكن أن تدوم طويلاً بسبب خوف الصديق من المواجهة أو عدم وعيه بكونه ضحية.

المحور الثالث: الانهيار الحتمي للعلاقات طويلة الأمد

لماذا تفشل معظم علاقات النرجسي الاجتماعية في أن تكون “صداقات حقيقية على المدى الطويل”؟ لأنها مبنية على فرضية خاطئة.

١. العجز عن التضحية أو العطاء غير المشروط:

  • الأساس: النرجسي لا يقدم العطاء إلا إذا كان يعود عليه بـ الوقود النرجسي (مديح، أو شعور بالتفوق).
  • الاختبار الحاسم: عندما يمر الصديق بأزمة حقيقية ويحتاج إلى الدعم العاطفي أو الوقت، يفشل النرجسي فشلاً ذريعًا. يرى النرجسي هذه الأزمة كـ “سحب للوقود” أو كـ “عبء” يجب التخلص منه، فينسحب أو يلوم الصديق على مشاعره.

٢. الإسقاط وتسميم العلاقة:

  • الآلية: عندما يشعر النرجسي بالغيرة من نجاح صديقه القريب، أو يشعر بضعفه الداخلي، فإنه يبدأ في الإسقاط واتهام الصديق بنفس الصفات.
  • النتيجة: هذا السلوك يخلق توترًا وشكًا مزمناً. الصديق الحقيقي يشعر بـ الظلم والارتباك ويسأل نفسه: “لماذا يتغير سلوكه معي عندما أنجح؟”. هذا يؤدي إلى التباعد التدريجي.

٣. انتهاء “المنفعة” و”التخلص” (The Discard):

  • الاستبدال: عندما يجد النرجسي مصدراً أفضل أو أكثر كفاءة للوقود، يتم التخلص من الصديق القديم ببرود وبدون تفسير.
  • السبب النرجسي: لا يوجد قيمة في العلاقة نفسها، بل في الوظيفة التي تؤديها. بمجرد انتهاء الوظيفة، يتم التخلص من الأداة.

المحور الرابع: كيف يحمي الأفراد أنفسهم من “الصداقة” النرجسية؟

الوعي بالحدود الحمراء والاحتفاظ باليقين الداخلي هو مفتاح الحماية في سياق النرجسية بالعربي.

١. التركيز على “التوازن في العطاء والأخذ”:

  • القياس: إذا كانت الصداقة تتطلب منك دائمًا أن تكون المستمع، أو الداعم، أو المُعطي، أو المُدافع عن النرجسي، بينما لا يقدم هو سوى القليل، فهذه علامة على أنك مصدر وقود وليس صديقًا.
  • الرد: يجب على الشخص أن يتعلم أن يقول “لا” أو أن يطلب المقابل (العطاء المتبادل). فشل النرجسي في تلبية هذا الطلب يكشف حقيقة العلاقة.

٢. اختبار النقد (The Criticism Test):

  • الآلية: الصديق الحقيقي يتقبل النقد البناء. النرجسي يرى النقد كـ “تهديد وجودي”.
  • التطبيق: إذا حاولت توجيه نقد هادئ وبناء لصديقك، وقوبلت بـ الغضب النرجسي أو الإسقاط أو الهجوم المضاد، فهذا دليل على أن علاقتكما هرمية وليست صداقة متساوية.

٣. توثيق الذاكرة والتعاطف الذاتي:

  • مقاومة الغاسلايتينغ: يحتفظ النرجسي بـ “أصدقائه” عن طريق الغاسلايتينغ (إنكار الواقع) للضحية (“أنت حساس جداً”). يجب على الضحية أن تثق في إدراكها.
  • اللغة الداخلية: يجب استبدال اللغة الداخلية المُعادية (اللوم الذاتي) بـ التعاطف الذاتي: “ليس خطئي أن علاقتنا فاشلة، أنا كنت صديقاً حقيقياً، وهو لم يكن كذلك.”

المحور الخامس: النرجسية بالعربي والتحذير الاجتماعي

في السياق الاجتماعي العربي، قد يستخدم النرجسي الأصدقاء كـ “شبكة دفاع” ضد التشهير أو النقد.

١. “الأصدقاء الطائرون” (Flying Monkeys):

  • التشكيل: يستخدم النرجسي مجموعة من الأصدقاء المطيعين أو السذج كـ “أصدقاء طائرون” لنشر التشهير عن الضحية أو لـ “التحويم” (Hoovering) والضغط عليها للعودة.
  • الحماية: يجب على الضحية التوقف عن الوثوق بشبكة النرجسي الاجتماعية بأكملها بعد الانفصال، والاعتماد فقط على دائرتها الخاصة.

٢. الصداقة كـ “استثمار في السمعة”:

  • الهدف: النرجسي يختار أصدقاءه بعناية ليعكسوا صورة إيجابية عنه (صديق متدين، صديق ناجح، صديق كريم). هذا الإطار يهدف إلى إقناع المجتمع بأنه “شخص جيد” ويُعزز من الشك في الذات لدى الضحية التي تراه مُسيئاً.

الخلاصة: الثقة الحقيقية تتجاوز المنفعة

هل يمتلك النرجسي فعلاً “أصدقاء حقيقيين” على المدى الطويل؟ من الناحية النفسية، الإجابة هي لا. الصداقات التي يُكوّنها النرجسي هي علاقات وظيفية وأداتية تدوم طالما بقيت المنفعة (الوقود) متوفرة بأقل جهد ممكن.

الضحية هي التي تستثمر مشاعر حقيقية في علاقة مُحاكاة. التحرر من هذا الوهم يتطلب إدراكاً حاسماً بأن الصداقة الحقيقية تعني المساواة، والتعاطف، والاحتفال بنجاح الآخرين دون حسد. والبدء في بناء علاقات صحية قائمة على التبادل غير المشروط، وليس على الحاجة الماسة إلى الوقود النرجسي.

شارك هذه المقالة

لقراءة مقالاتنا الاسبوعية

Comments

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *