النجاة في عالم النرجسي: لماذا يضطر الناجون إلى الكذب والتلاعب
يُعتقد غالبًا أن الناجين من العلاقات النرجسية هم ضحايا سلبيون، لا يملكون القدرة على الدفاع عن أنفسهم. ولكن الحقيقة أكثر تعقيدًا من ذلك. ففي عالم النرجسي، لا يقتصر التلاعب على شخص واحد فقط. إن النظام النرجسي هو بيئة سامة تجبر الجميع على التكيف من أجل البقاء، وهذا التكيف غالبًا ما يتضمن سلوكيات قد تبدو غير شريفة، مثل الكذب والتلاعب، أو الانغلاق العاطفي. هذه السلوكيات ليست علامات على ضعف الشخصية، بل هي “تكتيكات بقاء” يتبناها الأفراد في محاولة يائسة لتأمين سلامتهم النفسية والجسدية.
إن هذه السلوكيات تترك آثارًا عميقة في نفسية الناجين. إنهم يشعرون بالخزي، والذنب، وعدم الأصالة، لأنهم يجدون أنفسهم يفعلون أشياء لا تتماشى مع قيمهم الأساسية. ولكن من المهم أن نفهم أن هذه السلوكيات ليست جزءًا من شخصيتهم، بل هي نتيجة لظروف قهرية. في هذا المقال، سنغوص في ثلاثة من أبرز تكتيكات البقاء التي يتبناها الناجون من العلاقات النرجسية، وسنكشف عن الأسباب التي تجعلهم يلجأون إليها، وكيف يمكنهم التحرر من هذا السلوك والعودة إلى ذواتهم الحقيقية.
1. الكذب كوسيلة للبقاء: عندما يكون الصدق خطيرًا
النرجسيون يخلقون بيئة من الخوف. إن أي رأي مخالف، أو أي حقيقة لا تتماشى مع روايتهم، يمكن أن يثير غضبهم، أو نقدهم، أو عقابهم. في هذه البيئة، يصبح الكذب وسيلة للنجاة. إنه ليس كذبًا لأهداف شخصية، بل كذبًا لتجنب الصراع.
لماذا يكذب الناجون؟
- للحصول على الأمان النفسي: الكذب هو وسيلة لتجنب غضب النرجسي. قد يكذب الناجي بشأن المكان الذي كان فيه، أو الشخص الذي تحدث إليه، أو حتى عن مشاعره الخاصة، كل ذلك لتجنب النقد أو الجدل.
- لتلبية الاحتياجات الأساسية: قد يضطر الناجون إلى الكذب بشأن المال، أو الاحتفاظ بمدخرات سرية، أو شراء أشياء ضرورية، كل ذلك لتلبية احتياجاتهم الأساسية التي يمنعها النرجسي.
- لحماية الآخرين: قد يكذب الناجي على أطفاله، أو أفراد عائلته، أو أصدقائه، لحمايتهم من غضب النرجسي.
هذا الكذب، على الرغم من أنه لأسباب نبيلة، يترك في نفسية الناجي شعورًا بالخداع. إنه يشعر أنه “محارب مخادع”، وأنه لم يعد الشخص الصادق الذي كان عليه. هذا الشعور يمكن أن يصبح متأصلًا، ويجعل الناجي يشعر بعدم الأصالة حتى في العلاقات الصحية. ولكن من المهم أن نفهم أن هذا السلوك ليس جزءًا من شخصيته، بل هو استجابة لبيئة سامة.
2. التلاعب من أجل البقاء: “التثليث اليائس”
النرجسيون هم أساتذة في “التثليث” (Triangulation)، وهي استراتيجية تلاعب يشركون فيها طرفًا ثالثًا لإثارة الغيرة أو السيطرة. ولكن الناجين قد يتبنون شكلًا مختلفًا من التثليث، وهو ما يُعرف بـ “التثليث اليائس”.
ما هو التثليث اليائس؟
إنه تكتيك يستخدمه الناجي للحصول على ما يريد من خلال طرف ثالث يحترمه النرجسي. على سبيل المثال، إذا كان النرجسي لا يستمع إلى شريكه، فقد يذهب الشريك إلى صديق مشترك ويقول له: “هل يمكنك أن تخبره بأننا بحاجة إلى إصلاح السيارة؟”. إن هذا التكتيك هو وسيلة للتحايل على التواصل المباشر، الذي أصبح مستحيلًا بسبب ازدراء النرجسي واستهانته بالطرف الآخر.
لماذا يلجأ الناجون إليه؟
- للحصول على نتائج: في بيئة النرجسي، التواصل المباشر لا يجدي نفعًا. التثليث اليائس هو وسيلة للحصول على نتائج، حتى لو كانت هذه النتائج صغيرة.
- لتجنب الصراع: بدلاً من مواجهة النرجسي مباشرة، يختار الناجي طريقًا غير مباشر لتجنب الصراع.
وعلى الرغم من أن هذا التكتيك قد يكون فعالًا في بعض الأحيان، فإنه يترك الناجي يشعر بأنه متلاعب، وأنه “يصبح سيئًا مثل النرجسي”. ولكن هذا الشعور خاطئ. الناجي يستخدم هذا التكتيك للبقاء، وليس للسيطرة.
3. “الانغلاق العاطفي” كوسيلة للبقاء: عندما يصبح الانفصال هو الملاذ
عندما يفشل الكذب والتلاعب في تحقيق الهدف، يلجأ الناجي إلى تكتيك آخر: “الانغلاق العاطفي”. هذا السلوك يعني أن الناجي يتوقف عن الانخراط عاطفيًا في العلاقة، ولكنه يواصل أداء واجباته. إنه يتصرف كإنسان آلي، يقوم بالمهام، ويشارك في المحادثات السطحية، ولكنه غير موجود عاطفيًا.
ما هو الانغلاق العاطفي؟
إنه حالة من الانفصال العاطفي عن العلاقة. قد يقوم الناجي بإعداد الطعام، أو الاستماع إلى قصص النرجسي، أو حضور التجمعات العائلية، ولكنه يفعل ذلك دون أي شعور حقيقي. إنها وسيلة لحماية النفس من الأذى المستمر.
عواقبه:
على الرغم من أن الانغلاق العاطفي قد يبدو وسيلة فعالة للبقاء، فإنه يحمل مخاطر كبيرة. يمكن أن يؤدي إلى:
- الانفصال عن الذات: قد يفقد الناجي القدرة على الشعور، ويصبح في حالة من التخدير العاطفي.
- صعوبة في العلاقات الصحية: عندما يعود الناجي إلى العلاقات الصحية، قد يجد صعوبة في التواصل عاطفيًا، لأن الانغلاق العاطفي أصبح سلوكًا متأصلًا.
التحرر من تكتيكات البقاء: العودة إلى الذات
إن الخطوة الأولى للتحرر من هذه التكتيكات هي الوعي. يجب أن تدرك أن هذه السلوكيات ليست جزءًا من شخصيتك، بل هي نتيجة لظروف قهرية. إن الشفاء يتطلب منك:
- التعاطف مع الذات: توقف عن لوم نفسك. لقد كنت تفعل ما عليك فعله للبقاء.
- بناء الحدود: ابدأ في وضع حدود صحية. قد يكون هذا صعبًا في البداية، ولكنه ضروري للعودة إلى نفسك.
- البحث عن الدعم: تحدث مع معالج نفسي أو انضم إلى مجموعة دعم. إن التحدث عن تجربتك سيساعدك على فهم أنك لست وحدك، وأن ما مررت به كان حقيقيًا.
في الختام، إن النجاة من العلاقة النرجسية ليست سهلة. إنها تتطلب منك أن تواجه الحقائق الصعبة حول نفسك وحول النرجسي. ولكن من خلال فهم تكتيكات البقاء هذه، يمكنك أن تبدأ في رحلة الشفاء، والعودة إلى نفسك، والشخص الأصيل الذي كنت عليه دائمًا.
لقراءة مقالاتنا الاسبوعية
