يُعرف اضطراب الشخصية النرجسية بنمط من العظمة، والحاجة إلى الإعجاب، ونقص التعاطف. عندما ينخرط شخص ما في علاقة (سواء كانت عاطفية، عائلية، صداقة، أو حتى مهنية) مع نرجسي، غالبًا ما يجد نفسه في دوامة من التلاعب، والإساءة العاطفية، والتقويض المستمر. واحدة من أكثر الآثار المدمرة لهذه العلاقة هي فقدان الضحية لثقتها بنفسها وتقديرها لذاتها. هذا التآكل للذات لا يحدث فجأة، بل يتسلل ببطء ليترك الضحية تشك في عقلها، وقدراتها، وقيمتها كإنسان.
آليات النرجسي في تدمير الثقة بالنفس
النرجسيون بارعون في تقويض ثقة الآخرين بأنفسهم لأنهم يعتمدون على هذا التقويض للحفاظ على شعورهم المتضخم بالذات والسيطرة على من حولهم. إليك بعض الآليات التي يستخدمونها:
- الغازلايتينغ (Gaslighting): هذه هي إحدى أخطر أساليب التلاعب. يقوم النرجسي بجعل الضحية تشك في واقعها، وذاكرتها، وصحتها العقلية. على سبيل المثال، قد ينكر النرجسي شيئًا قاله بوضوح، أو يحاول إقناع الضحية بأنها تتخيل الأمور أو تبالغ في ردود فعلها. بمرور الوقت، تبدأ الضحية في الشك بحدسها وقدرتها على الحكم على الأمور، مما يدمر ثقتها بنفسها بشكل منهجي.
- الانتقاد المستمر والتقليل من الشأن: يوجه النرجسيون نقدًا لاذعًا ومستمرًا للضحية، سواء كان ذلك بخصوص مظهرها، أو ذكائها، أو قدراتها، أو قراراتها. غالبًا ما يكون هذا النقد مصحوبًا بالسخرية أو التعبيرات المهينة. الهدف هو جعل الضحية تشعر بعدم الكفاءة وأنها لا تستطيع فعل أي شيء بشكل صحيح، مما يؤدي إلى تآكل تدريجي لتقدير الذات.
- الإسقاط (Projection): يقوم النرجسيون بإسقاط عيوبهم ونقاط ضعفهم على الضحية. على سبيل المثال، إذا كان النرجسي غير أمين، فقد يتهم الضحية بعدم الأمانة. هذا يربك الضحية ويجعلها تشعر بالذنب والخزي تجاه صفات ليست لديها في الأصل.
- التلاعب بالذنب والمسؤولية: النرجسيون لا يتحملون المسؤولية عن أفعالهم أبدًا. بدلاً من ذلك، يلقون اللوم على الضحية في كل مشكلة أو سوء فهم. هذا يجعل الضحية تشعر دائمًا بأنها المذنبة، وأنها السبب في كل شيء خاطئ في العلاقة، مما يزيد من شعورها بعدم الكفاءة ويدمر ثقتها بقدرتها على اتخاذ القرارات الصحيحة.
- العزلة والتلاعب بالدعم الاجتماعي: قد يحاول النرجسي عزل الضحية عن أصدقائها وعائلتها وشبكات الدعم الأخرى. يجعلها تشعر بأنها لا تستطيع الثقة إلا به، وأن الآخرين لا يفهمونها أو لا يهتمون بها. هذه العزلة تزيد من اعتماد الضحية على النرجسي وتعزز شعورها بالوحدة، مما يجعلها أكثر عرضة لتأثيراته السلبية.
- “قصف الحب” ثم التقليل من القيمة: في بداية العلاقة، قد يغمر النرجسي الضحية بـ”قصف الحب” (Love Bombing)، حيث يغدق عليها بالثناء، والهدايا، والاهتمام المفرط. هذا يخلق إحساسًا بالكمال في العلاقة. ولكن سرعان ما تتغير هذه المرحلة إلى التقليل من القيمة، حيث يبدأ النرجسي في سحب الدعم، والانتقاد، والتجاهل. هذا التذبذب بين الإعجاب الشديد والإساءة يجعل الضحية في حالة من الارتباك واليأس، وتسعى جاهدة لاستعادة “النسخة المثالية” من العلاقة، مما يزيد من اعتمادها على النرجسي ويقوض ثقتها بنفسها.
علامات فقدان الثقة بالنفس لدى ضحية النرجسي
تظهر على الضحية مجموعة من العلامات التي تشير إلى تآكل ثقتها بنفسها:
- الشك المستمر في الذات: الضحية تشك في كل قرار تتخذه، وفي صحة إدراكها للأمور، وحتى في ذاكرتها.
- الخوف من ارتكاب الأخطاء: تصبح الضحية شديدة القلق بشأن ارتكاب أي خطأ، خوفًا من رد فعل النرجسي أو من التأكيد على شعورها بعدم الكفاءة.
- صعوبة في اتخاذ القرارات: حتى القرارات البسيطة تصبح صعبة، لأن الضحية تشعر بأنها غير قادرة على اتخاذ خيارات صحيحة.
- البحث عن التحقق الخارجي: تعتمد الضحية بشكل مفرط على آراء الآخرين وتأكيدهم لقيمتها أو صحة قراراتها.
- الاعتذار المفرط: تقول الضحية “أنا آسف” باستمرار، حتى عندما لا تكون هي المخطئة، كطريقة لتجنب الصراع أو لتبرير وجودها.
- عدم القدرة على وضع الحدود: تجد الضحية صعوبة في قول “لا” أو رفض طلبات النرجسي أو الآخرين، خوفًا من عواقب الرفض.
- الشعور بالخزي والذنب: تحمل الضحية شعورًا مزمنًا بالخزي من ذاتها والذنب تجاه مواقف لم تكن مسؤولة عنها.
- الانعزال الاجتماعي: قد تنسحب الضحية من الأصدقاء والعائلة، إما بسبب عزل النرجسي لها، أو بسبب شعورها بالخزي أو الخوف من أن يكتشف الآخرون “عيبها”.
- فقدان الهوية الشخصية: قد تشعر الضحية بأنها فقدت هويتها الحقيقية، وأنها أصبحت مجرد انعكاس لرغبات النرجسي وتوقعاته.
- أعراض جسدية: قد يظهر التوتر والقلق المزمن على شكل أعراض جسدية مثل اضطرابات النوم، مشاكل الجهاز الهضمي، الصداع، أو التعب المزمن.
السبيل إلى التعافي وبناء الثقة بالنفس
التعافي من الإساءة النرجسية واستعادة الثقة بالنفس هو عملية طويلة وشاقة، ولكنه ممكن تمامًا. يتطلب الأمر التزامًا قويًا بالذات ورعاية للنفس:
- الاعتراف والإدراك: الخطوة الأولى هي إدراك أنك ضحية إساءة نرجسية وأن ما حدث لم يكن خطأك. هذا الإدراك هو مفتاح التحرر من دائرة اللوم الذاتي.
- الابتعاد عن النرجسي أو تقليل التواصل: لتبدأ رحلة الشفاء، يجب عليك تقليل أو قطع التواصل تمامًا مع النرجسي (No Contact / Low Contact). طالما ظل النرجسي موجودًا في حياتك، ستستمر عملية تقويض ثقتك بنفسك.
- طلب الدعم الاحترافي (العلاج النفسي): المعالج المتخصص في التعامل مع ضحايا الإساءة النرجسية يمكن أن يقدم أدوات واستراتيجيات فعالة للتعافي. يساعد العلاج في معالجة الصدمة، وتحديد أنماط التفكير السلبية، وبناء آليات تأقلم صحية.
- إعادة بناء الهوية والذات: ابدأ في إعادة اكتشاف اهتماماتك، وهواياتك، وقيمك التي ربما تكون قد فقدتها أثناء العلاقة. اسأل نفسك: “من أنا بعيدًا عن هذا الشخص؟” هذا يساعد على استعادة شعورك بالذات.
- وضع حدود صحية: تعلم كيفية وضع حدود واضحة وغير قابلة للتفاوض مع الآخرين، والالتزام بها. هذا يعلمك أن احتياجاتك ومساحتك الشخصية تستحق الاحترام.
- بناء شبكة دعم إيجابية: أحط نفسك بأشخاص داعمين ومحترمين يثقون بك ويرون قيمتك. تحدث مع الأصدقاء والعائلة الموثوق بهم الذين يمكنهم توفير التحقق والدعم العاطفي.
- ممارسة الرعاية الذاتية: ركز على صحتك الجسدية والنفسية. مارس الرياضة، وتناول طعامًا صحيًا، واحصل على قسط كافٍ من النوم، ومارس تقنيات الاسترخاء مثل التأمل أو اليوجا. هذه الأنشطة تساعد على استعادة التوازن الداخلي.
- تحدي الأفكار السلبية: عندما تظهر الأفكار السلبية التي زرعها النرجسي في ذهنك، تحدها. اسأل نفسك: “هل هذا حقيقي؟” “هل هذا رأيي أم رأي النرجسي؟” استبدل الأفكار السلبية بأفكار إيجابية وواقعية عن نفسك.
- التسامح مع الذات: تذكر أنك لم تكن سبب الإساءة وأنك لم تكن ضعيفًا. لقد كنت ضحية لتلاعب شخص مضطرب. سامح نفسك على أي لوم ذاتي قد تشعر به.
إن فقدان الثقة بالنفس بعد التعامل مع شخص نرجسي هو نتيجة طبيعية للاستنزاف العاطفي والنفسي. لكنه ليس حكمًا أبديًا. من خلال الوعي، والدعم، والعمل الجاد على الشفاء، يمكن لضحايا النرجسيين أن يستعيدوا قوتهم، وثقتهم بأنفسهم، ويبنوا حياة صحية مليئة بالاحترام لذواتهم وللآخرين. رحلة التعافي قد تكون طويلة ومليئة بالتحديات، ولكنها تستحق كل جهد من أجل استعادة السلام الداخلي والحرية الحقيقية.
لقراءة مقالاتنا الاسبوعية
