الندم – الشعور الذي لا يطاق بالنسبة للنرجسي
يُعدّ الندم الحقيقي (Genuine Remorse)، أو الشعور بالذنب تجاه إيذاء الآخرين، مؤشراً أساسياً على الصحة النفسية والقدرة على التعاطف. وعندما يتعلق الأمر بـ النرجسي (Narcissist)، فإن الإجابة على سؤال “هل يشعر النرجسي فعلاً بأي ندم حقيقي في حياته؟” هي إجابة معقدة لكنها تتجه بشكل حاسم نحو النفي. فالنرجسية هي اضطراب في الشخصية يتسم بـ الافتقار الشديد للتعاطف العاطفي والحاجة القهرية لوهم الكمال، مما يجعل الشعور بالذنب أو الندم تجاه الأذى الذي يسببه للآخرين أمراً مستحيلاً ومُهدداً لوجوده.
تهدف هذه المقالة المتعمقة، إلى تحليل غياب الندم الحقيقي لدى النرجسي. سنقوم بتفكيك الأسباب النفسية العميقة التي تمنع ظهور هذا الشعور، والتمييز بين الندم الحقيقي و**”ندم الخسارة”** أو “ندم العقوبة” الزائف الذي قد يظهره النرجسي. هذا التحليل ضروري لتمكين ضحية النرجسي (Victim of Narcissism) من التوقف عن انتظار اعتذار صادق والبدء في التركيز على تحرير نفسها من هذا الوهم في سياق النرجسية بالعربي.
المحور الأول: التعريف النفسي للندم – لماذا يفشل الجهاز النرجسي؟
لفهم سبب عجز النرجسي عن الشعور بالندم، يجب فهم المكونات الأساسية للندم وكيفية تعطيلها في بنية الشخصية النرجسية.
١. المكونات الأساسية للندم الحقيقي:
- أ. التعاطف العاطفي (Emotional Empathy): القدرة على الشعور بألم الآخر كنتيجة لأفعالك.
- ب. تحمل المسؤولية (Accepting Responsibility): الاعتراف بأن الفعل نابع منك أنت وليس من الضحية أو الظروف.
- ج. تحمل الذنب (Capacity for Guilt): القدرة على تحمل الشعور المؤلم بـ “أنا ارتكبت خطأ”.
٢. فشل الآليات النرجسية:
- غياب التعاطف العاطفي: النرجسي يفتقر إلى هذه المكونة الأساسية. لا يشعر بوجع الضحية، وبالتالي لا يوجد دافع داخلي لـ التوقف عن الإيذاء.
- الإسقاط (Projection) وتحمل المسؤولية: النرجسي يستخدم الإسقاط كآلية دفاعية لحماية صورته المثالية. عندما يُسيئ، يتم إلقاء اللوم فوراً على الضحية أو على “الظروف” (الغاسلايتينغ). الاعتراف بالمسؤولية يعني تدمير الذات الزائفة.
- الخجل السام (Toxic Shame): النرجسي يعيش في خوف دائم من الشعور بالخجل والدونية. الندم والذنب يُمثلان إغراقاً بهذا الخجل، لذا يرفضهما العقل النرجسي بشكل قاطع كآلية بقاء.
٣. الندم النرجسي مقابل ندم الآخرين:
- الندم النرجسي: إذا حدث، فهو “ندم أناني” يركز على: “يا ليتني لم أفعل ذلك لأنني الآن سأفقد الوقود/أُعاقب/أبدو سيئاً أمام الناس.”
المحور الثاني: “اعتذارات” النرجسي – تحليل الندم الزائف
عندما يُظهر النرجسي ما يبدو أنه ندم أو أسف، فإنه يكون دائمًا ندمًا مشروطًا ووظيفيًا يهدف إلى تحقيق مكسب شخصي.
١. ندم الخسارة (Loss Remorse):
- متى يحدث؟ عندما يدرك النرجسي أنه على وشك فقدان الضحية (مصدر الوقود)، أو أنه فشل في التحويم (Hoovering).
- الأسلوب: يُعبر عن أسف مبالغ فيه، وبكاء درامي، وعبارات مثل: “أنا آسف لأني سببت لك الألم… لكن لا تتركني.”
- الهدف: ليس الندم على الألم، بل الندم على فقدان السيطرة والمصدر. بمجرد أن تعود الضحية، تختفي هذه المشاعر ويعود سلوكه المُسيئ. هذا النوع من الندم يُعزز صدمة الترابط.
٢. ندم العقوبة (Consequence Remorse):
- متى يحدث؟ عندما يواجه النرجسي عواقب اجتماعية أو قانونية أو مالية لفعلته.
- الأسلوب: الاعتذار يكون حول النتيجة وليس الفعل: “أنا آسف لأنني جعلتك تغضبين/تخسرين المال”، مع التركيز على أن النتيجة كانت غير مقصودة.
- الهدف: التلاعب بالموقف وتجنب العقوبة. هذا لا علاقة له بـ ضحية النرجسي؛ بل هو موجه نحو حماية الذات.
٣. الاعتذار المشروط والزائف (The Conditional Apology):
- العبارات القاتلة: “أنا آسف إذا كنت قد أسأت فهمي”، “أنا آسف لأنك شعرت بالضيق”، “أنا آسف، لكن كان يجب عليك…”.
- التحليل: هذا الاعتذار ليس ندمًا؛ بل هو الغاسلايتينغ متنكراً في صورة اعتذار. إنه يُحمّل الضحية مسؤولية الإساءة (“أنا آسف، لكن خطأك هو السبب”).
المحور الثالث: التكلفة النفسية لـ ضحية النرجسي وانتظار الندم
إن انتظار الندم الحقيقي من النرجسي يُعدّ أحد أكبر العوائق أمام التعافي، ويُبقي الضحية عالقة في وهم الأمل.
١. الاجترار العقلي والبحث عن العدالة:
- الآلية: الضحية، بحكم طبيعتها الأخلاقية، لا تستطيع تقبل أن شخصًا قد يرتكب إساءة بهذا الحجم دون أن يشعر بأي ندم. تبدأ في الاجترار العقلي (Rumination) محاولةً “حل اللغز” أو “إثبات الحقيقة” لـ النرجسي.
- التأثير: هذا الاجترار يزيد من التوتر المزمن ويُبقي الضحية مُعلَّقة عاطفياً ومُستنزفة، مما يعيق التعافي من C-PTSD.
٢. الغاسلايتينغ الداخلي وتدمير الذاكرة:
- النتيجة: عندما يرفض النرجسي الندم أو يعترف بالإساءة، تبدأ الضحية في ممارسة الغاسلايتينغ الداخلي: “ربما لم يكن الأمر بهذا السوء”، “ربما كنت أنا المخطئ/ة فعلاً”، “ربما أنا حساس/ة جداً” (وهي عبارة التدمير النرجسية).
- التأثير: هذا يمحو الثقة الأساسية في إدراك الضحية ويُقوض ما تبقى من تقدير الذات.
٣. اليأس والاكتئاب:
- الآلية: عندما تدرك الضحية أن ندماً لن يأتي أبدًا، وأن كل التضحيات كانت عبثاً، فإنها قد تسقط في فخ الاكتئاب والفراغ الوجودي. اليأس من الحصول على العدالة أو الاعتراف يقتل الأمل في الشفاء.
المحور الرابع: التحرر من الندم النرجسي في سياق النرجسية بالعربي
التحرر يبدأ بـ “التقبل الجذري” لغياب الندم وبناء العدالة الداخلية.
١. الابتعاد التام كـ “إغلاق حاسم”:
- الخطوة الأولى: يجب التعامل مع غياب الندم كحقيقة ثابتة لا تتغير. الابتعاد التام (No Contact) هو الإجراء الوحيد لقطع كل أمل في الندم الزائف ووقف محاولات التحويم الناتجة عن “ندم الخسارة”.
٢. العدالة لا تأتي من المُسيئ:
- التثبيت الذاتي: يجب أن تُدرك الضحية أن العدالة والتثبيت العاطفي (Validation) لن يأتيان من النرجسي. يجب أن تُمنح العدالة والتثبيت لنفسها: “أنا أثق في أن الإساءة حدثت، وأن الألم كان حقيقياً، وهذا اعتراف يكفيني.”
٣. توثيق الحقائق لتهدئة الاجترار:
- الآلية: استخدام دفتر الحقائق (Fact Journal) لتوثيق جميع الإساءات وأكاذيب النرجسي. هذا التوثيق هو الدليل الذي تستخدمه الضحية لمقاومة الغاسلايتينغ الداخلي وتهدئة الاجترار العقلي البحثي.
٤. الندم على العلاقة لا الندم على الفعل:
- التحول: يجب على الضحية أن تُحوّل تركيزها من “متى سيندم هو؟” إلى “ماذا سأندم عليه إذا بقيت؟” الندم الوحيد الذي يجب أن تشعر به الضحية هو ندمها على تضييع المزيد من الوقت في العلاقة السامة.
الخلاصة: غياب الندم هو دليل على خطورة الاضطراب
هل يشعر النرجسي فعلاً بأي ندم حقيقي في حياته؟ الندم الحقيقي (الأخلاقي) مستحيل على النرجسي بسبب افتقاره للتعاطف العاطفي وحاجته القهرية لحماية ذاته الزائفة. ما يُظهره هو “ندم الخسارة” أو “ندم العقوبة”، وكلاهما ندم وظيفي يهدف إلى استعادة السيطرة والحصول على الوقود النرجسي.
التحرر النهائي لـ ضحية النرجسي يبدأ بـ “التقبل الجذري” لغياب هذا الندم والتوقف عن انتظار الاعتراف. باستعادة الثقة الأساسية في الذاكرة عبر التوثيق، وتطبيق الابتعاد التام، ومنح الذات التثبيت العاطفي، يمكن لـ الضحية أن تكسر وهم الندم وتستعيد حياتها وسلامها الداخلي في مواجهة النرجسية بالعربي.
لقراءة مقالاتنا الاسبوعية

اترك تعليقاً