ما الهدف من حياتك مع الشخص النرجسي؟ بين الخوف من الوحدة والرغبة في النجاة

في زوايا الحياة المظلمة، تعيش كثير من النساء في علاقاتٍ تبدو من الخارج متماسكة، لكنها من الداخل تنهار كل يوم بصمت.
تجلس الزوجة أمام مرآتها في نهاية الليل، تتساءل:
لماذا ما زلت معه؟ ما الذي يبقيني في هذه الحياة المليئة بالألم والخذلان؟
أسئلةٌ موجعةٌ تتكرر في قلب كل امرأة ارتبطت بشخص نرجسي، لا تعرف إن كانت تُحبّه، أم تُدمنه، أم تخشاه.

الحياة مع النرجسي ليست حياة طبيعية؛ إنها معركة يومية بين الحفاظ على الذات والخوف من الانهيار، بين الأمل في التغيير والاستسلام للواقع.
لكن قبل أن نحكم على من بقيت في هذه العلاقة، علينا أن نفهم الأسباب التي تجعلها تتمسك بهذا النوع من الأشخاص، رغم ما تتعرض له من أذى نفسي ومعنوي عميق.


أولاً: حين يتحول الصبر إلى قيدٍ غير مرئي

يقول البعض: “أنتِ قوية لأنك صبرتِ كل هذه السنوات.”
لكن الحقيقة أن هذا الصبر ليس دائمًا فضيلة، أحيانًا يكون قيدًا نفسيًا يمنع صاحبه من التحرر.
الزوجة التي تبقى مع النرجسي تمتلك قدرًا هائلًا من الصبر، لكنه في غير موضعه.
تتحمل الإهانة، والتلاعب، والإهمال، وكل ذلك تحت شعار “الحفاظ على الأسرة” أو “تربية الأبناء”.
وفي العمق، هي تخشى أن تنهار حياتها إن قررت المغادرة.

الكثير من النساء يعتقدن أن الانفصال هو نهاية العالم، وأن البقاء، مهما كان مؤلمًا، هو الخيار الآمن.
لكن الحقيقة أن البقاء مع شخصٍ سامٍ ونرجسيّ يستهلك طاقتك النفسية شيئًا فشيئًا حتى تفقدي ذاتك تمامًا.


ثانيًا: الخوف من الوحدة.. الفخّ الأقدم في العلاقات

الخوف من الوحدة أحد أقوى الأسباب التي تُبقي المرأة في علاقةٍ سامة.
تقول لنفسها: “ماذا لو كبرت ولم أجد من يشاركني الحياة؟”
لكن هل الوحدة فعلًا أسوأ من البقاء في علاقةٍ تُميت الروح؟
كثير من النساء يخشين الفراغ أكثر من الألم، فيقبلن بالبقاء في جحيم مألوف على أن يغامرن بدخول جنة مجهولة.

غير أن الحقيقة المؤلمة هي أن النرجسي لا يمنحك الأمان أصلًا، بل يُغرقك في خوفٍ دائم، فيشكّلك كما يشاء، ويجعلك تشكين في نفسك، وفي قيمتك، وفي حكمك على الأمور.
إذن، أنت لستِ خائفة من الوحدة بقدر ما أنتِ مدمنة على وجوده، حتى وإن كان وجودًا مؤذيًا.


ثالثًا: الأمل الكاذب في التغيير

أخطر ما يواجه ضحية العلاقة النرجسية هو الأمل في أن يتغير النرجسي.
فهي تتشبث بكل كلمة طيبة يقولها، بكل لحظة حنان عابرة، معتقدةً أن “الخير ما زال فيه”.
لكن النرجسي لا يتغير، لأنه لا يرى في نفسه خطأً أصلًا.
هو لا يسعى إلى الإصلاح، بل يسعى إلى السيطرة.
كل مرة يغدق عليك وعودًا جديدة، يعيدك إلى دائرة التعلق والخذلان، لتبدئي من جديد رحلة الألم نفسها.

إن الإيمان بأنك قادرة على “إصلاحه” وهمٌ كبير، لأن العلاقة مع النرجسي ليست ساحة إصلاح، بل ساحة استنزاف نفسي مستمر.
وما دام تركيزك منصبًّا على تغييره، فلن تجدي الوقت لتغيّري نفسك أو تبني حياتك.


رابعًا: الصورة الاجتماعية والقيود الثقافية

في مجتمعاتنا الشرقية، كثير من النساء يخشين لقب “مطلقة” أكثر من خوفهن من التعاسة نفسها.
المجتمع يحمّل المرأة وحدها مسؤولية فشل العلاقة، بينما يتغاضى عن الأذى الذي تتعرض له.
فتُضطر للبقاء في علاقةٍ مؤذية فقط لتحتفظ بصورة “الزوجة المثالية”.
لكن ما جدوى الصورة إن كانت الروح مكسورة؟
هل يستحق الحفاظ على “شكلٍ اجتماعي” أن تدمري نفسك من الداخل؟

الوعي هنا هو المفتاح.
عليك أن تدركي أن قيمتك لا تُقاس بعلاقتك برجل، بل بذاتك، بسلامك الداخلي، بقدرتك على العطاء دون أن تُدمّري نفسك في المقابل.


خامسًا: التعلق المرضي.. حين يتحول الحب إلى إدمان

العلاقة مع النرجسي تقوم على “الشدّ والجذب”.
يُحبك يومًا ويُهملك يومًا آخر، يغدق عليك الحنان ثم يسحبه فجأة، فيخلق داخلك اضطرابًا عاطفيًا يجعلك مدمنة على لحظات الاهتمام القليلة.
إنه دوامة التعلق المرضي التي تُفقدك توازنك تدريجيًا.
تظنين أنك تحبينه، بينما أنت في الحقيقة مدمنة على ردّ فعله، تبحثين عن الرضا منه كما يبحث الطفل عن حضن أمه.

لكن الفارق أن الأم تمنح الأمان، بينما النرجسي يمنح الخوف والتشكيك.
تحرير نفسك من هذا النوع من التعلق يحتاج إلى وعيٍ وشجاعة، وإلى إدراك أن حب الذات لا يقل أهمية عن حب الآخرين.


سادسًا: الهدف الحقيقي من البقاء مع النرجسي

ربما تقولين: “أنا لا أستطيع الطلاق الآن، عندي أولاد ولا أريد تدمير حياتهم.”
وهذا تفكير واقعي وإنساني، لكن يجب أن تسألي نفسك:
هل بقاؤك مع النرجسي يحمي أطفالك فعلاً أم يُعرّضهم لضررٍ نفسي أكبر؟

الهدف من بقائك معه يجب أن يكون واضحًا:
إما الحفاظ على استقرار مؤقتٍ حتى تُحققي استقلالك، أو التعايش الواعي دون خضوعٍ أو مهانة.
أي أن وجودك معه لا يعني الاستسلام، بل اتخاذ موقفٍ ذكي يحميك ويحمي أبناءك.

عليك أن تركّزي على تطوير نفسك، على بناء قوةٍ داخلية تجعلك قادرة على إدارة حياتك بمعزلٍ عن مزاجه وتقلباته.
اعرفي أن النرجسي لا يمكنه تدمير من يفهمه، لأن الفهم هو بداية التحرر من سحره.


سابعًا: الهدف الأسمى – بناء الذات لا إرضاء النرجسي

العيش مع شخص نرجسي لا يعني أن تتخلي عن أحلامك أو طموحاتك.
بل على العكس، يجب أن يكون وجوده في حياتك دافعًا لتقوية ذاتك لا لطمسها.
ابحثي عن هدفك الشخصي:
هل هو الاستقلال المالي؟
هل هو تربية أطفالٍ أقوياء نفسيًا؟
هل هو التعافي من العلاقة السامة؟

حين تحددين هدفك، تصبحين قادرة على مقاومة محاولاته لإضعافك.
النرجسي لا يستطيع التحكم في امرأةٍ تعرف من هي وماذا تريد.
كلما ازدادت ثقتك بنفسك، قلّ تأثيره عليك.


ثامنًا: بين البقاء والرحيل

الطلاق ليس دائمًا الحلّ، والبقاء ليس دائمًا خطأ.
الأهم هو أن تعيشي بوعي، لا بخوف.
أن يكون قرارك نابعًا من قوة داخلية لا من ضعفٍ أو يأس.
فقد تكون مرحلة البقاء المؤقت مع النرجسي مرحلةً ضرورية لاكتساب القوة، لا للاستسلام.

اجعلي هدفك الأهم هو حماية نفسك وأطفالك نفسيًا.
ولا تسمحي للنرجسي أن يزرع بداخلك فكرة أنك بلا قيمة أو أنك لن تنجحي بدونه.
كل امرأة قادرة على إعادة بناء حياتها متى آمنت بقيمتها الحقيقية.


تاسعًا: خطوات عملية لتحديد هدفك

  1. دوّني كل ما يجعلك تتألمين في العلاقة – فالكتابة تفتح وعيك وتوضح لك إن كنتِ تبقين خوفًا أم حبًا.
  2. ضعي خطة للاستقلال المالي – حتى لا تكوني رهينة احتياجك المادي للنرجسي.
  3. اهتمي بصحتك النفسية – عبر القراءة، أو حضور جلسات دعم، أو التحدث مع مختصين.
  4. قللي من التفاعل مع دراماه – لا تبرري، لا تتجادلي، ولا تحاولي إقناعه بشيء.
  5. ركّزي على تربية أطفالك في بيئةٍ آمنة – فالاستقرار النفسي لهم يبدأ من وعيك أنتِ.

عاشرًا: الحياة بعد النرجسي تبدأ من الداخل

التعافي من العلاقة النرجسية لا يبدأ بالابتعاد الجسدي، بل بالتحرر النفسي.
يبدأ حين تدركين أنك لستِ مسؤولة عن سعادته، وأن دورك ليس إصلاحه بل حماية نفسك.
يبدأ حين تفهمين أن الله لم يبتلك به ليعاقبك، بل ليوقظك إلى قوةٍ كامنةٍ في داخلك لم تكوني تعرفينها.

كوني على يقين أن كل تجربةٍ مؤلمةٍ تحمل في طياتها درسًا للنمو والتطور.
قد لا تكوني قادرة على تغيير النرجسي، لكنك بالتأكيد قادرة على تغيير نفسك، وهذا أعظم انتصار.


خاتمة

العلاقة مع شخصٍ نرجسي ليست نهاية الطريق، بل قد تكون بداية رحلة وعيٍ جديدة.
رحلة تدفعك لإعادة اكتشاف نفسك، لإعادة بناء ثقتك، ولتتعلمي أن الحب لا يعني التضحية بالكرامة.
الهدف من حياتك مع النرجسي ليس البقاء أسيرة الألم، بل أن تتعلمي كيف تحمين نفسك وتنهضي رغم الجراح.

تذكّري دائمًا:
أنتِ لستِ ضحية، بل ناجية.
ولأنك ناجية، فلكِ أن تختاري السلام بدل الصراع، والوعي بدل الخوف، والنور بدل الظلام.

شارك هذه المقالة

لقراءة مقالاتنا الاسبوعية