ضياع الذات: تحليل مشكلة فقدان الإحساس بالهوية الذاتية (Loss of Self-Identity) عند ضحية النرجسي (دراسة متعمقة في النرجسية بالعربي)
الهوية كضحية صامتة في العلاقة النرجسية
يُعدّ فقدان الإحساس بالهوية الذاتية (Loss of Self-Identity)، أو ما يُعرف بـ “تآكل الذات” (Self-Erosion)، من أكثر الآثار النفسية عمقًا ودوامًا التي تُصيب ضحية النرجسي (Victim of Narcissism) بعد التعرض لعلاقة طويلة ومُسيئة. العلاقة مع النرجسي (Narcissist) ليست مجرد إساءة عاطفية؛ بل هي عملية ممنهجة لـ “محو الذات”، حيث يتم تحويل هوية الضحية لتصبح وظيفة مكرسة لخدمة وتلبية احتياجات النرجسي والحصول على الوقود النرجسي. وعندما تنتهي العلاقة، تجد الضحية نفسها تقف أمام مرآة فارغة: غير قادرة على تحديد من هي، وماذا تحب، وما هي أهدافها وقيمها الحقيقية.
تهدف هذه المقالة المتعمقة، إلى تحليل جذور وأعراض فقدان الإحساس بالهوية الذاتية عند ضحية النرجسي. سنقوم بتفكيك الآليات التي يستخدمها النرجسي لخلق هذا الفراغ الوجودي، وكيف يرتبط هذا الفقد بـ C-PTSD والشك في الذات، وسنقدم استراتيجيات عملية لبدء رحلة “إعادة اكتشاف الذات” وبنائها. هذا التحليل ضروري لتمكين الأفراد الذين عانوا من النرجسية بالعربي من تسمية هذه المعاناة والبدء في استعادة جوهر كيانهم.
المحور الأول: آليات النرجسي في تدمير الهوية الذاتية
يعمل النرجسي بشكل استراتيجي لتفكيك الهوية المستقلة للضحية، معتمدًا على آليات تضمن أن تكون الضحية مُعتمدة عليه بشكل كامل كمصدر لتعريف الذات.
١. الانعكاس والتقليد (Mirroring and Merging):
في المراحل الأولى (القصف العاطفي)، يقوم النرجسي بـ تقليد اهتمامات الضحية وأحلامها وقيمها.
- الهدف: إيهام الضحية بأنها وجدت “توأم الروح” أو الشخص الذي “يفهمها تمامًا”. هذا يخلق شعورًا زائفًا بالاندماج والوحدة، مما يشجع الضحية على التخلي عن حدودها وهويتها المستقلة.
- النتيجة: عندما يبدأ النرجسي في سحب هذا القرب، تجد الضحية أن اهتماماتها لم تكن حقيقية، بل كانت مجرد انعكاسات لاهتماماته.
٢. الغاسلايتينغ (Gaslighting) وتفكيك الذوق الشخصي:
الغاسلايتينغ ليس فقط إنكارًا للأحداث، بل هو إنكار لـ “ذوق” و**”أفضلية”** الضحية.
- تدمير الخيارات الشخصية: “كيف يمكنك الاستماع إلى هذه الموسيقى السخيفة؟”، “هذا المظهر لا يليق بك، ارتدي ما أختاره لك.” بمرور الوقت، تتعلم الضحية أن تتجاهل ذوقها الشخصي وتتبنى خيارات النرجسي لتجنب النقد.
- الخلاصة: تفشل الضحية في تطوير التعبير عن الذات بشكل مستقل، وتصبح هويتها مجرد مجموعة من التفضيلات التي وافق عليها النرجسي.
٣. الوظيفية واللعب بالدور (Functional Role-Playing):
يتم اختزال هوية الضحية إلى مجموعة من الوظائف التي تخدم النرجسي: الطاهي، المُنقذ، السكرتير، المُنظف، أو حامل اللوم.
- فقدان العمق: يتم تجاهل جميع الأبعاد الأخرى لشخصية الضحية (الأحلام، الطموحات المهنية، الاهتمامات الروحية). الوجود يصبح مقتصرًا على “ماذا يمكنني أن أفعل للنرجسي؟”.
- الاعتمادية: يُعزز النرجسي هذا الدور من خلال الثناء المتقطع على الوظيفية (“أنت الأفضل في الطبخ/التنظيف”)، مما يجعل الضحية تربط قيمتها بأدائها لهذه المهام.
المحور الثاني: الأعراض بعد الانفصال – الفراغ الوجودي والشك
بعد انتهاء العلاقة، تجد الضحية نفسها أمام تحدي تحديد هويتها في غياب الشخص الذي كان يعرفها (ويتحكم بها).
١. الفراغ والشعور بالتيه (Emptiness and Drifting):
- السؤال القاسي: تشعر الضحية بفراغ هائل عندما لا تجد من تُرضيه أو من تُقدم له الوقود النرجسي. السؤال الداخلي يصبح: “ماذا أفعل الآن؟” أو “ماذا أريد؟” مع غياب الإجابة.
- التيه المعرفي: صعوبة في اتخاذ القرارات الأساسية؛ حيث اعتادت الضحية على أن يُملي النرجسي عليها كل شيء.
٢. الشك في القيمة الذاتية (Self-Doubt and Worthlessness):
يرتبط فقدان الهوية بالشك في الذات (Self-Doubt) بشكل وثيق.
- الاعتقادات السلبية: يستمر الغاسلايتينغ الداخلي في تذكير الضحية بأنها “ليست كفؤة” أو “غير مهمة” خارج دورها السابق.
- اللغة الداخلية المُعادية: تتحول اللغة الداخلية إلى صوت النرجسي الذي يُواصل النقد الذاتي السام، مما يمنع الضحية من بناء تقدير ذات صحي.
٣. الارتباط بـ C-PTSD (اضطراب ما بعد الصدمة المُعقد):
يُعدّ فقدان الهوية أحد الأعمدة الأساسية لـ C-PTSD الناتج عن الصدمة المزمنة في العلاقات الشخصية.
- الارتباك: يزيد هذا الفقد من صعوبة تنظيم العاطفة والاجترار العقلي، حيث لا يوجد إطار مرجعي داخلي ثابت يمكن لـ الضحية العودة إليه لتثبيت مشاعرها أو منطقها.
المحور الثالث: استراتيجيات إعادة اكتشاف وبناء الذات
يتطلب التعافي من فقدان الهوية رحلة واعية لـ “إعادة الولادة النفسية” والتعرف على الذات الحقيقية المنسية.
١. فرض الابتعاد التام كشرط أساسي (No Contact):
- التطهير: لا يمكن لعملية إعادة البناء أن تبدأ إلا بـ التطهير التام من أي تأثير لـ النرجسي، ووقف جميع مصادر الوقود النرجسي. الابتعاد التام هو عملية حيوية لكسر حلقة الاعتماد.
٢. تدوين الذات المنسية (The Forgotten Self Journal):
- الاستكشاف: يجب على الضحية استخدام الكتابة كوسيلة للعودة إلى الماضي قبل العلاقة النرجسية.
- الأسئلة: تدوين إجابات لأسئلة مثل: “ماذا كنت أحب أن أفعل عندما كنت طفلاً؟”، “ما هي الألوان التي كنت أفضلها قبل أن يخبرني بأنها سيئة؟”، “ما هي الأحلام التي تخليت عنها لأجله؟” هذا يساعد على تحديد نقاط البداية لإعادة البناء.
٣. إعادة بناء الهوايات والاحتياجات:
- التجربة النشطة: يجب على الضحية تجربة الأنشطة والهوايات التي كانت محظورة عليها أو التي لم تكن تعرف أنها تحبها (بدء صفوف دراسية، ممارسة رياضة، تعلم لغة). الهدف هو إثبات أن “الأفضليات الشخصية” لا تحتاج إلى موافقة خارجية.
- إعادة بناء الـ “أنا”: استبدال لغة النرجسي بـ: “أنا أستمتع بهذا.”، “أنا أريد هذا.”، “أنا قررت هذا.”
٤. تحديد نظام القيم الشخصي (Core Values):
- الانفصال عن القيم النرجسية: كان نظام قيم الضحية يدور حول الولاء، والتضحية، والكمال (كما يراه النرجسي). يجب إعادة تقييم هذه القيم.
- التركيز على قيم الذات: تحديد القيم الجديدة التي تدعم الذات (مثل: الصدق الذاتي، الرعاية الذاتية، الحدود، التعاطف مع النفس، الأصالة).
المحور الخامس: التحديات الاجتماعية والنرجسية بالعربي
في السياق الاجتماعي، قد تتفاقم مشكلة فقدان الهوية بسبب الضغوط الثقافية.
١. دور الزوج/الزوجة كوظيفة:
في المجتمعات التي يتم فيها تعريف الأدوار الزوجية بشكل صارم، يتم اختزال هوية الضحية (خاصة المرأة) في دورها كـ “زوجة”، أو “أم”، أو “خادمة”.
- صعوبة الانفصال: الانفصال عن النرجسي يعني الانفصال عن هذا “اللقب الاجتماعي” الوحيد الذي كان يُعرّفها. هذا يزيد من الفراغ الوجودي.
٢. الغاسلايتينغ الاجتماعي:
عند محاولة إعادة بناء الهوية، قد يتدخل الأهل أو الأصدقاء المُقلدين للنرجسي بالقول: “أنتِ تتغيرين كثيراً، لم تكوني هكذا من قبل.” هذا يُعيد تفعيل الخوف الداخلي ويزيد من صعوبة بناء هوية جديدة.
- الحل: يجب على الضحية أن تُحيط نفسها بشبكة دعم صغيرة لكنها قوية، تدرك أن التغيير إيجابي وضروري للتعافي.
الخلاصة: الهوية هي مشروع التعافي الأسمى
إن فقدان الإحساس بالهوية الذاتية هو الدليل الأقوى على أن العلاقة النرجسية لم تكن مجرد حب فاشل، بل كانت تدميراً للذات. يتطلب التعافي رحلة بطيئة وشجاعة لـ “إعادة التنقيب” عن الذات الحقيقية المنسية والمكبوتة.
التحرر الحقيقي يبدأ عندما تستبدل الضحية سؤالها: “من أنا بالنسبة له؟” بالسؤال الحاسم: “من أنا لنفسي؟” إن إعادة بناء الهوية، وإعادة اكتشاف الأحلام القديمة، وتحديد القيم الشخصية، هو المشروع الأسمى الذي يُحرر ضحية النرجسي من السجن العقلي ويقودها إلى الأمان الذاتي.
لقراءة مقالاتنا الاسبوعية

اترك تعليقاً