تُعد الأم الركيزة الأساسية في حياة الطفل، فهي مصدر الحنان، الأمان، والتوجيه الذي يشكل شخصيته وعلاقاته المستقبلية. ولكن ماذا يحدث عندما تكون هذه الركيزة مهتزة، بل ومُدمرة؟ عندما تكون الأم مصابة باضطراب الشخصية النرجسية، تتغير طبيعة هذه العلاقة الجوهرية بشكل جذري، تاركةً آثارًا عميقة وممتدة على أطفالها تستمر معهم حتى مرحلة البلوغ، مؤثرة على صحتهم النفسية، علاقاتهم، وحتى تقديرهم لذاتهم.
إن الأثر الذي تخلفه الأم النرجسية لا يظهر بالضرورة في كدمات جسدية أو جروح واضحة، بل يكمن في ندوب نفسية خفية، تؤثر على طريقة تفكير الأبناء، شعورهم، وتفاعلهم مع العالم. هذه الندوب قد تتطلب سنوات من الوعي والعلاج للتعافي منها.
ديناميكية الأم النرجسية مع أطفالها: بذور الاضطراب
تتميز الأم النرجسية بنمط سلوكي يدور حول الذاتية المفرطة، والحاجة المستمرة للإعجاب، ونقص التعاطف، والرغبة في السيطرة. هي لا ترى أطفالها كأفراد مستقلين لهم احتياجاتهم ومشاعرهم، بل كـ امتداد لذاتها، أو أدوات لتعزيز صورتها الذاتية المتضخمة.
- “الطفل الذهبي” و”كبش الفداء”: غالبًا ما تقوم الأم النرجسية بتقسيم أطفالها إلى أدوار. قد تختار “طفلاً ذهبيًا” تُبالغ في مدحه والثناء عليه، لأنه يعكس صورة إيجابية لها أمام المجتمع. هذا الطفل يتعلم أن قيمته مرتبطة بتحقيق الكمال وإرضاء والدته، مما يجعله عرضة لتطوير سمات نرجسية مشابهة أو قلق الأداء المفرط. في المقابل، يكون هناك “كبش الفداء” الذي يُلقى عليه اللوم في كل مشكلة، ويُنتقد باستمرار، ويُقلل من شأنه. هذا الطفل غالبًا ما يعاني من تدني حاد في احترام الذات، وشعور عميق بالخزي والعار.
- نقص التعاطف والتجاهل العاطفي: لا تستطيع الأم النرجسية فهم أو تلبية الاحتياجات العاطفية لأطفالها. قد تتجاهل مشاعرهم، أو تقلل من شأن آلامهم، أو حتى تسخر منها. هذا الإهمال العاطفي يترك الطفل يشعر بأنه غير مرئي، وغير مسموع، وغير مهم.
- التلاعب والتحكم: تستخدم الأم النرجسية أساليب التلاعب العاطفي، مثل الذنب، والغازلايتينغ (التلاعب بالواقع لجعل الضحية تشك في عقلها)، والتهديدات، لفرض سيطرتها. هذا يخلق بيئة من عدم الأمان والارتباك، حيث لا يستطيع الطفل الوثوق بحدسه أو بتقييمه للواقع.
- الغيرة والمنافسة: قد تشعر الأم النرجسية بالغيرة من إنجازات أطفالها أو علاقاتهم، خاصة بناتهن أو زوجات أبنائهن. يمكن أن تحاول تقويض هذه العلاقات أو الإنجازات للحفاظ على مركز الصدارة والسيطرة.
- الحدود غير الواضحة: لا تحترم الأم النرجسية حدود أطفالها الشخصية. قد تتدخل في خصوصياتهم، أو تتوقع منهم تلبية جميع مطالبها دون نقاش، مما يمنع الأطفال من تعلم كيفية وضع حدود صحية لأنفسهم.
الآثار على الأطفال في الكبر: ندوب تبقى وتؤثر
تظهر تداعيات هذه التربية القاسية بوضوح في مرحلة البلوغ، حيث يعاني الأطفال من مجموعة من المشاكل النفسية والعاطفية:
- تدني احترام الذات والشعور بعدم الكفاءة:التعرض المستمر للانتقاد، والتقليل من الشأن، وتجاهل الإنجازات، يؤدي إلى شعور عميق بعدم القيمة. يكبر هؤلاء الأفراد وهم يعتقدون أنهم غير جيدين بما يكفي، أو غير مستحقين للحب والنجاح، حتى لو حققوا إنجازات عظيمة.
- صعوبة في بناء علاقات صحية:يتأثر نمط التعلق لدى أطفال الأم النرجسية. قد يطورون تعلقًا غير آمنًا (قلقًا أو تجنبيًا). يصبحون إما شديدي التعلق والبحث عن التأكيد من الآخرين (الشخصية الاعتمادية)، أو يتجنبون التقارب العاطفي خوفًا من التعرض للأذى أو الرفض. غالبًا ما يجدون أنفسهم في علاقات سامة، يكررون فيها ديناميكيات العلاقة مع الأم، حيث يبحثون عن شريك يُشبه الأم في سلوكياتها، أو يسمحون بالانتهاكات لأنهم اعتادوا عليها.
- مشاكل في الثقة:نظرًا لأنهم نشأوا في بيئة مليئة بالتلاعب والكذب والتناقض، يجد أطفال الأم النرجسية صعوبة بالغة في الثقة بالآخرين. قد يكونون شديدي الشك، أو غير قادرين على تكوين روابط عميقة بسبب خوفهم من الخيانة أو الهجر.
- الشعور بالذنب والخزي:تُتقن الأم النرجسية فن إلقاء اللوم على أطفالها وجعلهم يشعرون بالذنب. يكبر الأبناء وهم يحملون هذا العبء، يشعرون بالذنب لأشياء خارجة عن سيطرتهم، أو بالخزي من ذواتهم الحقيقية، مما يعيق نموهم العاطفي.
- القلق والاكتئاب واضطراب ما بعد الصدمة المعقد (C-PTSD):البيئة العاطفية المتقلبة وغير المتوقعة التي توفرها الأم النرجسية تؤدي إلى حالة مزمنة من التوتر. هذا يمكن أن يسبب مستويات عالية من القلق والاكتئاب. في الحالات الشديدة، قد يتطور لديهم اضطراب ما بعد الصدمة المعقد (C-PTSD)، والذي ينجم عن صدمات متكررة وطويلة الأمد، ويتميز بمشاكل في التنظيم العاطفي، واضطراب في الهوية، وصعوبة في العلاقات.
- تحديات في وضع الحدود:بما أن حدودهم لم تُحترم أبدًا في الطفولة، يكبر هؤلاء الأفراد وهم يجدون صعوبة بالغة في وضع حدود صحية مع الآخرين. قد يسمحون للناس باستغلالهم أو انتهاك حقوقهم خوفًا من الصراع أو الرفض.
- البحث المستمر عن التحقق الخارجي:نظرًا لأنهم لم يتلقوا التحقق الكافي من أمهم، فإنهم يبحثون عنه باستمرار من مصادر خارجية. قد يصبحون “مرضين للناس” (People-Pleasers)، يحاولون إرضاء الجميع على حساب أنفسهم، مما يزيد من إرهاقهم العاطفي.
- تطوير سمات نرجسية (في بعض الحالات):كما ذكرنا سابقًا، بعض الأطفال، خاصة “الطفل الذهبي”، قد يطورون سمات نرجسية كآلية تأقلم مع بيئتهم. قد يصبحون هم أنفسهم نرجسيين، مكررين الدورة السامة في علاقاتهم الخاصة.
مسار التعافي والشفاء
التعافي من آثار الأم النرجسية رحلة طويلة وصعبة، ولكنه ممكن. يتضمن هذا المسار:
- الوعي والإدراك: فهم طبيعة اضطراب الأم النرجسية وكيف أثرت على حياتهم هو الخطوة الأولى. إدراك أن المشكلة ليست فيهم، بل في اضطراب الأم.
- العلاج النفسي: العلاج الفردي، وخاصة العلاج المعرفي السلوكي (CBT) أو العلاج القائم على المخطط (Schema Therapy)، يمكن أن يساعد في معالجة الصدمات، وتغيير أنماط التفكير السلبية، وتطوير آليات تأقلم صحية.
- وضع الحدود: تعلم كيفية وضع حدود واضحة وصارمة مع الأم النرجسية والآخرين أمر بالغ الأهمية للحفاظ على السلامة النفسية.
- بناء شبكة دعم: التواصل مع أصدقاء موثوق بهم، أو أفراد عائلة داعمين، أو مجموعات دعم لأبناء النرجسيين يمكن أن يوفر بيئة آمنة للشفاء.
- التركيز على الرعاية الذاتية: الاهتمام بالصحة الجسدية والنفسية، وتنمية الهوايات، وبناء علاقات إيجابية بعيدًا عن تأثير الأم.
- الابتعاد (في الحالات الشديدة): في بعض الحالات، قد يكون الابتعاد التام أو التقليل الشديد من التواصل (No Contact / Low Contact) هو الخيار الوحيد للحفاظ على الصحة النفسية.
إن تأثير الأم النرجسية على أطفالها في الكبر ليس مجرد ذكرى عابرة، بل هو بنية نفسية متأصلة تتطلب عملاً جادًا للفكاك منها. لكن بالوعي، والدعم، والعمل على الذات، يمكن لهؤلاء الأبناء كسر الحلقة المفرغة، وبناء حياة صحية ومليئة بالاحترام لذواتهم وللآخرين. إن رحلة الشفاء هذه تُعد شهادة على مرونة الروح البشرية وقدرتها على التغلب على أعمق الجروح.
لقراءة مقالاتنا الاسبوعية
