يتساءل الكثير من الأشخاص الذين مرّوا بعلاقات سامة أو مؤذية: “لماذا ابتلاني الله بالنرجسي؟ ولماذا سمح لي أن أعيش هذا الألم؟”
سؤال يتكرر كثيرًا بين ضحايا العلاقات النرجسية، ويختلط فيه الجانب النفسي بالروحي، فيبحث الإنسان عن معنى لوجعه، وعن إجابة تطفئ نار التساؤل في داخله.
قد يبدو الحديث عن الابتلاء بالنرجسي أمرًا دينيًا عميقًا يحتاج إلى عالم أو مختص، لكن من خلال البحث والدراسة والتجربة، يمكننا أن نقترب من فهم الحكمة الإلهية والنفسية وراء هذا النوع من الابتلاء، لعلّ ذلك يخفّف من آلام المظلومين ويمنحهم بصيصًا من السلام الداخلي.
فالهدف ليس تبرير الأذى، بل فهمه. وليس الدعوة إلى الصبر السلبي، بل إلى النمو بعد الصدمة، وإدراك أن الله – سبحانه وتعالى – لا يبتلي عباده ليؤذيهم، بل ليطهّرهم ويعلّمهم ويقرّبهم منه.
النرجسية من منظور علم النفس: لماذا نقع في العلاقات السامة؟
قبل الخوض في الجانب الديني، من المهم أن نفهم المنظور العلمي لعلاقات النرجسية.
تشير دراسات في علم النفس، مثل تلك التي أجراها الباحثان هازن وشيفر (1987)، إلى أن الأشخاص الذين نشأوا في بيئات عاطفية مضطربة أو مليئة بالإهمال العاطفي في طفولتهم، يكونون أكثر عرضة للدخول في علاقات مؤذية أو مع شركاء نرجسيين.
السبب في ذلك يعود إلى ما يُعرف بـ “أنماط التعلق العاطفي”.
فالطفل الذي لم يشعر بالأمان أو الحب غير المشروط، قد يكبر وهو يبحث عن هذا الأمان المفقود في الآخرين، فينجذب إلى شخصية النرجسي التي تظهر في البداية بمظهر المنقذ، الواثق، المفعم بالحب والاهتمام.
لكن سرعان ما تتبدد الصورة، ليكتشف الضحية أنه وقع في شبكة من التلاعب والسيطرة النفسية.
إذن، من منظور علم النفس، العلاقة بالنرجسي ليست مصادفة، بل نتيجة لأنماط نفسية متجذّرة تحتاج إلى وعي وعلاج.
لكن يبقى السؤال الذي يُقلق القلوب: لماذا سمح الله بذلك؟
الابتلاء بالنرجسي من منظور ديني: امتحان لا عقوبة
يعتقد البعض أن وقوعهم في علاقة نرجسية هو عقاب إلهي، فيسألون بمرارة: “لماذا لم يحمِني الله منه؟ لماذا تركني أُستغل وأُهان وأُكسر؟”
لكن الحقيقة أن الله سبحانه وتعالى لا يظلم أحدًا، ولا يبتلي عباده ليعاقبهم بغير ذنب. قال تعالى:
“ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير.”
الابتلاء بالنرجسي قد يكون فرصة لإعادة الاتصال بالله بعد غياب طويل، أو وسيلة لإيقاظ الروح من غفلتها.
فكم من شخصة كانت بعيدة عن الله، ثم لمّا اشتد بها الألم لجأت إلى الدعاء والصلاة والابتهال، فكان ذلك طريقها للعودة إلى الإيمان.
وفي المقابل، قد يكون الابتلاء اختبارًا للعبد المطيع الصابر، ليُعلّمه الله الصبر والحكمة، ويُنمّي في داخله قوة داخلية لا تُكتسب إلا بالتجربة.
قال تعالى:
“ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين.”
فالله لا يبتلي إلا من أحب، ولا يختبر إلا من أراد أن يرفعهم درجات في الدنيا والآخرة.
هل النرجسي عقاب أم رسالة؟
إذا نظرنا بعمق، نجد أن الابتلاء بالنرجسي ليس عقوبة، بل رسالة.
قد تكون رسالة إلى من غفل عن صلاته وذكره، فيعيد ترتيب علاقته مع خالقه.
وقد تكون رسالة إلى من قدّم الآخرين على نفسه حتى أضاع ذاته، فيتعلّم أن محبة الذات واحترامها من صميم الإيمان.
فالله لا يريد لعباده الذل، بل يريدهم أعزّاء بأنفسهم وبإيمانهم.
وما النرجسي إلا مرآة مؤلمة تُظهر لنا ما كنا نتجاهله في ذواتنا: ضعفنا، تبعيتنا، خوفنا من الوحدة، حاجتنا إلى الحب من مصدر خارجي.
حين ندرك ذلك، نبدأ رحلة التعافي النفسي والروحي الحقيقية.
النمو بعد الصدمة: من الألم إلى الوعي
في علم النفس، هناك مفهوم يُعرف بـ “النمو بعد الصدمة” (Post-Traumatic Growth)، وهو حالة من النضج النفسي والروحي التي يمر بها الإنسان بعد تجارب قاسية أو مؤذية.
دراسة أُجريت عام 2004 أكدت أن الأشخاص الذين يمرّون بعلاقات مؤذية أو صدمات نفسية قد يخرجون منها أكثر قوة، وأعمق إدراكًا لمعنى الحياة.
هذه الفكرة تتوافق تمامًا مع المفهوم الديني الإسلامي للابتلاء، حيث قال النبي ﷺ:
“إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله إذا أحب قومًا ابتلاهم.”
الابتلاء بالنرجسي إذن ليس نهاية الطريق، بل بداية وعي جديد.
خلاله يتعلّم الإنسان الاعتماد على الله وحده، والثقة بأن القوة ليست في التعلّق بالبشر، بل في الإيمان العميق بأن الله وحده الكافي.
الضحية التي كانت ترى في النرجسي مصدر أمانها وسعادتها، تبدأ بعد التجربة في إدراك أن الأمان الحقيقي لا يُستمد إلا من الله، وأن الحب النقي لا يكون إلا في ظله.
كيف نحول الابتلاء إلى طاقة للنمو؟
- الاعتراف بالألم دون إنكار:
الألم لا يُشفى بالهروب منه، بل بمواجهته. الاعتراف بما حدث هو أول خطوة نحو التعافي. - العودة إلى الله بصدق:
ليس من خلال أداء الطقوس فقط، بل من خلال علاقة حقيقية بالقلب.
الدعاء، والمناجاة، والاعتراف بالضعف أمام الله، هي مفاتيح الشفاء الروحي. - طلب المساعدة النفسية:
العلاج النفسي أو جلسات الدعم لا تتعارض مع الإيمان، بل تُكمله. فكما نداوي الجسد إذا مرض، يجب أن نداوي النفس إذا انكسرت. - فهم الدروس الخفية:
ما الذي تعلّمته من التجربة؟
ربما علّمتك أن تحبي نفسك، أو أن تضعي حدودًا صحية، أو أن لا تثقي بأحد ثقة مطلقة. كل ذلك نموّ، وكل ذلك حكمة. - استخدام التجربة لخدمة الآخرين:
بعض من مرّوا بعلاقات نرجسية مؤلمة أصبحوا مصدر وعي للآخرين.
فالله أحيانًا يختارك لتكوني سببًا في إنقاذ غيرك، وهذا في حد ذاته تكريم رباني.
الإيمان لا يلغي الوجع… لكنه يضيء الطريق
من الطبيعي أن تسأل نفسك: “لماذا أنا؟”
لكن الإيمان يُحوّل السؤال من “لماذا؟” إلى “لأي حكمة؟”
حين تُغيّر زاوية النظر، يتحول الألم إلى درس، والدموع إلى نور.
فالله لا يبتليك ليكسر قلبك، بل ليُعيد تشكيله على نحوٍ أقوى وأنقى.
ربما كان النرجسي وسيلة ليقول لك الله:
“ارجعي إليّ، لا تجعلي أحدًا يأخذ مكانًا في قلبك أكبر مني.”
رسالة إلى كل من ابتُلي بعلاقة نرجسية
إذا كنتِ قد خرجتِ من علاقة مؤذية، أو ما زلتِ تعانين داخلها، فتذكّري:
- لستِ وحدك.
- ما حدث لم يكن عبثًا.
- وربك أرحم بك من نفسك.
ابحثي عن الله في قلب العاصفة، ستجدين أن رحمته تحيط بك من حيث لا تعلمين.
وكل وجع مررتِ به، كان يصنع منكِ إنسانة أقوى، أنقى، وأقرب إلى حقيقتها.
بين الدين والعلم… تكامل لا تناقض
يجتمع العلم النفسي والدين الإسلامي في نقطة جوهرية واحدة:
أن الإنسان قادر على الشفاء والنمو بعد الألم.
فالعلم يفسّر الآليات، والدين يمنح المعنى.
العلم يقول إنك تستطيعين إعادة بناء ذاتك بعد الصدمة، والدين يقول:
“إن مع العسر يسرا.”
ومتى ما اجتمع الفهم العلمي بالإيمان، كانت الرحلة نحو التعافي أكثر عمقًا وثباتًا.
خاتمة: من الألم تولد النعمة
الابتلاء بالنرجسي ليس نهاية العالم، بل بداية طريق جديد نحو وعيٍ أعمق بنفسك وبربك.
قد يكون هذا الطريق مليئًا بالدموع، لكنه أيضًا مليء بالهدايا الخفية.
في كل تجربة مؤلمة رسالة، وفي كل خسارة حكمة، وفي كل انكسار فرصة لبدء جديد.
فتذكّري دائمًا:
الله لا يبتليك ليؤذيك، بل ليطهّرك، ويُريك طريقك إليه.
وما النرجسي إلا وسيلة عابرة في رحلة طويلة عنوانها “العودة إلى الذات… والعودة إلى الله.”
لقراءة مقالاتنا الاسبوعية
