الفراغ الوجودي: تحليل مشكلة الفراغ الوجودي (Existential Void) عند ضحية النرجسي (دراسة متعمقة في النرجسية بالعربي)
البحث عن المعنى بعد الانفصال النرجسي
يُعدّ الفراغ الوجودي (Existential Void)، أو الشعور العميق بانعدام المعنى والهدف والدافع، أحد أكثر الأعراض اللاحقة لضحية النرجسي (Victim of Narcissism) التي تتطلب فهماً فلسفياً ونفسياً عميقاً. العلاقة مع النرجسي (Narcissist) ليست مجرد إساءة عاطفية؛ بل هي عملية اختطاف للوجود، حيث يتم توجيه كل طاقة الضحية وأهدافها لخدمة احتياجات النرجسي والحصول على الوقود النرجسي. وعندما يرحل النرجسي أو تنجح الضحية في التحرر، تجد نفسها تواجه عالماً بدون “قائد” أو “هدف”، مما يترك فراغاً هائلاً في مكان الهوية والمعنى.
تهدف هذه المقالة المتعمقة، ، إلى تحليل مشكلة الفراغ الوجودي عند ضحية النرجسي. سنقوم بتفكيك الجذور النفسية والفلسفية لهذه الظاهرة، وكيف يغذي فقدان الهوية الذاتية والاعتمادية هذا الفراغ، وسنقدم استراتيجيات عملية لبدء رحلة “إعادة اكتشاف المعنى” وبناء وجود حقيقي ومستقل. هذا التحليل ضروري لتمكين الأفراد الذين عانوا من النرجسية بالعربي من تحديد مصدر معاناتهم والبدء في بناء حياة ذات مغزى حقيقي.
المحور الأول: الجذور النفسية للفراغ الوجودي – فقدان البوصلة الداخلية
ينبع الفراغ الوجودي لدى ضحية النرجسي من فقدان نقطة الارتكاز الداخلية التي كانت تعتمد عليها لتحديد قيمتها وأهدافها.
١. فقدان الإحساس بالهوية الذاتية (Loss of Self-Identity):
يُعدّ هذا هو السبب الجذري للفراغ. خلال العلاقة، تم اختزال هوية الضحية إلى وظيفة واحدة: “إرضاء النرجسي”.
- الهوية الوظيفية: كانت قيمة الضحية مرتبطة بشكل مباشر بأدائها لهذا الدور: إذا كان النرجسي سعيداً، فـ الضحية قيمة. إذا كان غاضباً، فـ الضحية فاشلة.
- بعد الانفصال: بمجرد زوال النرجسي، يزول معه هذا “الهدف” الوظيفي. تجد الضحية نفسها بلا مهمة، بلا قيمة مُحددة، وبلا إجابة على السؤال: “من أنا الآن؟”. هذا الفراغ في الهوية يولد فراغاً في الهدف.
٢. الاعتمادية القهرية (Codependency) والاختطاف العاطفي:
كانت حياة الضحية موجهة بالكامل نحو تلبية احتياجات النرجسي، مما أدى إلى اعتمادية قهرية.
- اختطاف الأهداف: أهداف الضحية لم تكن أهدافها الخاصة، بل كانت أهداف النرجسي (نجاحه، مظهره الاجتماعي، سعادته).
- الفراغ العاطفي: عندما تُسحب هذه الأهداف، لا تدرك الضحية ما الذي يجب أن تفعله بأهدافها الخاصة، فتظهر مشاعر عميقة بالضياع والملل.
٣. الاجترار العقلي (Rumination) كبديل مُر:**
عندما يظهر الفراغ الوجودي، يحاول العقل ملء هذا الفراغ بـ الاجترار العقلي (التفكير المفرط في الماضي).
- الاجترار كـ “وظيفة”: يصبح الاجترار هو “المهمة” الجديدة التي يمنحها العقل لنفسه. بدلاً من السعي نحو هدف مستقبلي، ينخرط العقل في تحليل الماضي لإيجاد معنى لـ “لماذا حدث ذلك؟” أو “كيف يمكنني إصلاحه؟”. هذا الاجترار يُبقي الضحية مُعلَّقة في الفراغ ويمنعها من المضي قدماً.
المحور الثاني: المظاهر السلوكية لـ الفراغ الوجودي
يتجسد الشعور بالفراغ الوجودي في مجموعة من السلوكيات التي تُعيق التعافي وتزيد من خطر العودة إلى أنماط الإساءة.
١. فقدان الدافع والمبادرة (Lack of Motivation):
- العجز عن اتخاذ القرار: تشعر الضحية بالشلل التام أمام اتخاذ قرارات بسيطة أو كبيرة، حيث لا يوجد “مرجع ذاتي” لتوجيه هذه القرارات.
- اللامبالاة (Apathy): فقدان الشغف والاهتمامات القديمة، والشعور بأن “كل شيء ممل” أو “لا يستحق العناء”.
٢. البحث عن مصادر خارجية للمعنى:
- الإدمان على العلاقات الجديدة (Rebound Relationships): قد تندفع الضحية بسرعة إلى علاقة جديدة لملء الفراغ، وغالباً ما تنجذب إلى شخص يعرض “السيطرة” أو “التوجيه” (أي شخص قد يكون نرجسيًا آخر أو استغلاليًا)، لأن الشعور بالقيادة الخارجية مألوف ومريح لها.
- التعلق القهري بالعمل أو المادية: الانخراط المفرط في العمل أو السلوكيات المادية (الإنفاق، التسوق) كطريقة سريعة ومؤقتة لتغطية الفراغ الداخلي.
٣. محاولات التحويم العكسي (Reverse Hoovering):
في بعض الحالات، قد تُحاول الضحية الاتصال بـ النرجسي السابق (التحويم العكسي) لا شعورياً لسبب واحد: للحصول على تعريف لذاتها أو إثبات لواقعها.
- الهدف: ليس الحب، بل البحث عن “مرجع” خارجي يذكرها بالقيمة أو يثبت لها أن الألم كان حقيقياً. هذا الفعل هو محاولة يائسة لملء الفراغ بمحتوى “مألوف”.
المحور الثالث: العلاقة الفلسفية – الفراغ الوجودي والـ “مايا” النرجسية
في الفلسفة الوجودية وعلم النفس الإنساني، يُنظر إلى الفراغ الوجودي على أنه نتيجة لرفض تحمل مسؤولية الحرية واختيار المعنى.
١. النرجسية كـ “إنكار للمسؤولية”:
خلال العلاقة، كان النرجسي هو الذي يتحمل (أو يُلقي) جميع المسؤوليات والقرارات.
- التحرر المُرعب: عندما يتحرر الضحية، تجد نفسها فجأة أمام الحرية المطلقة في اختيار حياتها، لكنها لا تملك الأدوات اللازمة لتحمل مسؤولية هذا الاختيار. هذا العبء يُولد قلقاً ورعباً يؤدي إلى تفضيل الفراغ على تحمل المسؤولية.
٢. التناقض بين الأصالة والـ “زيف” (Authenticity vs. Falsehood):
- الوجود الزائف: كانت حياة الضحية مُعاشة تحت “الزيف” (Falsehood)، حيث كانت كل مشاعرها وردود أفعالها غير أصيلة ومصممة لإرضاء النرجسي.
- البحث عن الأصالة: الفراغ الوجودي هو نتيجة اليقظة الوجودية، حيث يدرك العقل أن الحياة الماضية كانت زيفاً. يبدأ العقل في البحث عن الأصالة (Authenticity)، لكنه لا يعرف شكلها أو طريقة الوصول إليها.
المحور الرابع: استراتيجيات علاج الفراغ – بناء الوجود المستقل
يتطلب علاج الفراغ الوجودي عملاً واعياً يهدف إلى بناء هدف وقيمة داخلية لا تعتمد على أي شخص آخر.
١. تحديد القيم الأساسية (Core Values) كبوصلة:
- الخطوة الأولى: يجب على الضحية أن تحدد بوضوح ما هي قيمها الجوهرية الآن (مثل: الصدق الذاتي، الحدود، الرعاية، النمو، المساهمة).
- إعادة توجيه الأفعال: كل قرار أو عمل تقوم به الضحية يجب أن يكون موجهًا نحو هذه القيمة (مثلاً: إذا كانت القيمة هي “الحدود”، يصبح الهدف هو وضع حدود صغيرة يومياً). هذا يُعيد للإنسان شعوره بالغاية والمعنى.
٢. العمل على مشروع المساهمة (Contribution):
- العلاج الوجودي: العلاج الوجودي يُعلم أن المعنى يوجد في العطاء والمساهمة في شيء أكبر من الذات.
- التحول من “الاحتياج” إلى “العطاء”: الانخراط في عمل تطوعي، أو مساعدة الآخرين، أو متابعة مهنة تخدم المجتمع. هذا يحول تركيز الضحية من الاحتياج لـ ملء الفراغ إلى العطاء وبناء القيمة الذاتية. هذا يملأ الفراغ بشكل صحي ودائم.
٣. التعافي من فقدان الهوية الذاتية:
- التجربة والاكتشاف: يجب على الضحية أن تسمح لنفسها بتجربة أشياء جديدة دون خوف من الحكم أو الفشل (الرياضة، الهوايات، السفر). الفشل في هذه المرحلة يُعدّ نجاحاً لأنه يمثل محاولة لتحديد الذات المستقلة.
- إعادة بناء السردية: استخدام الكتابة لإنشاء سردية جديدة للحياة، حيث لم تعد الضحية هي “الضحية”، بل هي “الناجي” و”البطل” الذي استعاد وجوده.
المحور الخامس: الفراغ الوجودي في سياق النرجسية بالعربي والتحدي الروحي
في السياق العربي، قد يجد الفراغ الوجودي تفسيرات دينية أو اجتماعية تزيد من حدة المعاناة.
١. الفراغ الروحي والبحث عن التوافق:
قد يُفسر الفراغ الوجودي بشكل خاطئ على أنه “بعد عن الدين” أو “نقص روحي”، بينما هو في الحقيقة فقدان للتوافق الوجودي نتيجة الإساءة.
- التركيز على التعبير: يجب على الضحية أن تتعلم التعبير عن هذا الفراغ بلغة روحية صحية، مُدركةً أن البحث عن المعنى هو جزء من التعافي.
٢. تحدي “النمط المفقود”:
في المجتمعات التي تفرض أدوارًا اجتماعية واضحة، قد يكون النرجسي قد مثل “النموذج” الاجتماعي.
- التحدي: يجب أن تتقبل الضحية أنها يجب أن تكون رائدة ومبتكرة في بناء نمط حياة جديد ومختلف، حتى لو لم يكن مألوفاً اجتماعياً.
الخلاصة: ملء الفراغ بالوجود الأصيل
إن مشكلة الفراغ الوجودي عند ضحية النرجسي هي دليل على أن العلاقة كانت عملية إفراغ للذات من الأهداف والقيم الشخصية. هذا الفراغ ليس عيباً، بل هو دعوة لبدء الحياة الحقيقية.
التحرر من هذا الفراغ لا يتم عبر البحث عن قائد أو شريك جديد، بل عبر تحمل مسؤولية الحرية المكتشفة حديثاً. بـ تحديد القيم الأساسية، والمساهمة في العالم، وإعادة بناء الهوية المستقلة، تستطيع ضحية النرجسي أن تملأ هذا الفراغ الوجودي بوجود أصيل وذو مغزى، وتتحرر من قبضة النرجسية بالعربي إلى الأبد.
لقراءة مقالاتنا الاسبوعية

اترك تعليقاً