انكماش الذات: تحليل مشكلة القلق الاجتماعي (Social Anxiety) عند ضحية النرجسي (دراسة متعمقة في النرجسية بالعربي)
القلق الاجتماعي – امتداد الخطر من الخاص إلى العام
يُعدّ القلق الاجتماعي (Social Anxiety)، وهو الخوف الشديد من الحكم، أو النقد، أو الإحراج في المواقف الاجتماعية، أحد الأعراض الجانبية القاسية للنجاة من علاقة طويلة الأمد ومُسيئة مع النرجسي (Narcissist). بالنسبة لضحية النرجسي (Victim of Narcissism)، فإن البيئة الاجتماعية المحيطة بـ النرجسي كانت تُستخدم بشكل ممنهج كـ ساحة اختبار أو منصة تشهير، حيث كان النرجسي يضمن دائمًا أن تكون الضحية هي الهدف للوم أو السخرية. هذا الخوف المتأصل من النقد لا يزول بانتهاء العلاقة؛ بل يتسع، ليتحول من الخوف من النرجسي الفرد إلى الخوف من “العالم بأكمله” باعتباره مُحتملاً للحكم والإساءة.
تهدف هذه المقالة إلى تحليل مشكلة القلق الاجتماعي عند ضحية النرجسي. سنقوم بتفكيك الجذور العميقة التي تربط بين تكتيكات النرجسي (كـ التقليل من الشأن والغاسلايتينغ) وتطور القلق الاجتماعي، وشرح كيف تؤدي هذه التجربة إلى فرط يقظة في البيئة العامة، وكيف يُعطل هذا القلق عملية التعافي وبناء علاقات صحية. هذا التحليل ضروري لتمكين الأفراد الذين عانوا من النرجسية بالعربي من فهم أن قلقهم هو استجابة مُكتسبة يمكن علاجها.
المحور الأول: الجذور النرجسية للقلق الاجتماعي – النقد الدائم والهجوم على الذات
ينبع القلق الاجتماعي لدى ضحية النرجسي من تعرضها المستمر والمكثف لثلاث آليات هجومية تخلق نموذجًا داخليًا لـ “العالم المُنتقد”.
١. التقليل من الشأن (Devaluation) وتآكل القيمة الذاتية:
- الآلية: كان النرجسي يُمارس التقليل من شأن الضحية بشكل مستمر (سواء في السر أو العلن)، من خلال انتقاد مظهرها، أو ذكائها، أو إنجازاتها. هذا الهجوم المتواصل يُدمّر تقدير الذات ويثبت اعتقادًا جوهريًا لدى الضحية: “أنا معيب/ة وسأفشل حتماً في إرضاء الآخرين”.
- التحول إلى القلق الاجتماعي: عندما تنتقل الضحية إلى محيط اجتماعي، فإنها تفترض أن “صوت النرجسي الناقد” هو الآن “صوت الجمهور”. تتوقع أن ينظر إليها الآخرون بنفس نظرة الاحتقار أو السخرية التي كان يوجهها لها النرجسي.
٢. الغاسلايتينغ (Gaslighting) وفقدان الثقة الإدراكية:
- الآلية: الغاسلايتينغ يُعلم الضحية أن إدراكها للواقع غير موثوق. إنها تخشى التعبير عن رأيها أو فكرتها في محيط اجتماعي خوفًا من أن يتم تكذيبها أو السخرية منها أو تصحيحها (كما كان يفعل النرجسي).
- الخوف من الجدال: تُصبح المواقف الاجتماعية مصدر قلق لأنها قد تتطلب من الضحية الدفاع عن نفسها أو عن حقيقة تعرفها، وهي مهمة أصبحت مرهقة وغير آمنة بعد تجربة النرجسي.
٣. التشهير الاجتماعي (Smear Campaign) وعزلة الضحية:
- الآلية: غالبًا ما يقوم النرجسي بتشويه سمعة الضحية أمام الأصدقاء والعائلة قبل الانفصال أو بعده.
- النتيجة: الشعور بأن العالم “مُطّلع” على أسوأ نسخة مُحرّفة عن الضحية (التي صنعها النرجسي). هذا الخوف من الوصمة أو التشويه يرفع مستوى القلق الاجتماعي إلى درجة التجنب التام للمواقف العامة.
المحور الثاني: القلق الاجتماعي وفرط اليقظة – الأبعاد السلوكية
يرتبط القلق الاجتماعي ارتباطًا وثيقًا بـ فرط اليقظة (Hypervigilance)، حيث يتحول هذا القلق إلى سلوكيات مُجهدة في التجمعات.
١. فرط اليقظة في التفاعلات الاجتماعية:
- الآلية: بدلاً من الاستمتاع بالتفاعل، يُقضي الضحية وقته في مسح الوجوه، ونبرات الصوت، ولغة الجسد بحثًا عن علامات الرفض، أو الحكم، أو الاستغلال. هذا هو امتداد لفرط اليقظة الذي كان يمارسه لتوقع نوبة النرجسي.
- التكلفة: هذه اليقظة المفرطة تستهلك كمية هائلة من الطاقة المعرفية وتؤدي إلى الإرهاق الاجتماعي، مما يجعل الضحية تفضل العزلة.
٢. التحليل المفرط لما بعد التفاعل (Post-Mortem Analysis):
- الاجترار الاجتماعي: حتى بعد انتهاء الموقف الاجتماعي بنجاح، يبدأ الضحية في إعادة تشغيل الشريط في عقلها (الاجترار العقلي)، مُحللاً كل كلمة ونظرة، باحثًا عن “الأخطاء” التي ارتكبتها. هذا الاجترار يُغذي الغاسلايتينغ الداخلي ويثبت الاعتقاد بأنها فشلت حتماً.
- التوقعات السلبية: هذا يؤدي إلى تجنب المناسبات الاجتماعية المستقبلية، خوفًا من تكرار الإحراج الداخلي.
٣. الـ “خوف من الأداء” (Performance Anxiety):
- الآلية: يشعر الضحية بأنه يجب أن يكون مثاليًا في التفاعلات الاجتماعية لتجنب النقد (تذكيرًا بالمعايير غير الواقعية للنرجسي). أي خطأ بسيط (كـ التلعثم في الكلام أو سوء فهم سؤال) يُفسر على أنه دليل على “الغباء” أو “عدم الكفاءة”.
- النتيجة: التزام الصمت في المواقف الاجتماعية، أو الإفراط في الاعتذار، أو تجنب بدء المحادثات.
المحور الثالث: تأثير القلق الاجتماعي على التعافي والهوية
القلق الاجتماعي يُعدّ عائقًا أمام عملية التعافي ويمنع الضحية من استعادة هويتها المفقودة.
١. إعاقة استعادة الهوية الذاتية:
- العزلة كحماية: يؤدي القلق الاجتماعي إلى العزلة، مما يمنع الضحية من التعرض لتجارب جديدة (هوايات، علاقات) كانت ضرورية لإعادة بناء هويتها المفقودة.
- الاستمرار في دور التابع: يبقى الضحية مُقتنعًا بأنه يجب أن يكون تابعًا أو مُنصتًا أو مُرضيًا للآخرين، حتى في غياب النرجسي، خوفًا من إثارة حكم المجتمع.
٢. فقدان شبكة الدعم (Support System):
- التجنب: في مراحل التعافي، تحتاج الضحية إلى شبكة دعم قوية. القلق الاجتماعي يجعل الضحية تتجنب الأصدقاء الجدد أو حتى العائلة الداعمة، مما يُبقيها في حالة عزلة ويُعمّق من آثار C-PTSD.
- المساومة على التعاطف: الضحية تخشى طلب المساعدة أو التعبير عن احتياجاتها (خوفاً من الحكم أو الرفض)، مما يُبقيها في دائرة اللوم الذاتي.
٣. القلق الاجتماعي كعامل يُغذي الاجترار:
- الاجترار الاجتماعي: كل موقف اجتماعي صعب أو مُتجنَّب يتحول إلى وقود للاجترار العقلي، مما يُغذي القلق العام ويُبقي ضحية النرجسي أسيرة صوته الداخلي.
المحور الرابع: استراتيجيات علاج القلق الاجتماعي والعودة إلى الاندماج
يتطلب علاج القلق الاجتماعي بعد الإساءة النرجسية مقاربة تجمع بين التهدئة العصبية وتحدي المعتقدات المعرفية.
١. التهدئة العصبية وتخفيف فرط اليقظة:
- اليقظة الذهنية والتثبيت: استخدام تمارين التثبيت الجسدي (Grounding) لتهدئة الجهاز العصبي والعودة إلى اللحظة الحالية عند بدء نوبة القلق الاجتماعي.
- التنفس العميق: ممارسة تمارين التنفس قبل الدخول في موقف اجتماعي لخفض مستويات الكورتيزول والأدرينالين.
٢. العلاج المعرفي السلوكي (CBT) لتحدي المعتقدات:
- تحدي الـ “إذا-إذًا”: تحديد المعتقدات الأساسية الناتجة عن النرجسي: (مثلاً: “إذا تحدثت، فإن الناس سيحكمون عليّ وسأشعر بالخجل”). ثم يتم تحدي هذه الفرضيات بالمنطق والواقع.
- إعادة الصياغة: مساعدة الضحية على إعادة صياغة الإشارات الاجتماعية (مثلاً: إذا لم يبتسم شخص ما، فليس بالضرورة أنه يكرهني؛ ربما كان مشغولًا).
٣. التعرض التدريجي (Exposure Therapy) لكسر التجنب:
- الخطوات الصغيرة: البدء بالتعرض التدريجي للمواقف الاجتماعية الصغيرة والآمنة (مثل محادثة قصيرة مع صديق موثوق، أو طلب قهوة في مقهى).
- إعادة بناء الروابط: البحث عن مجموعات دعم أو أشخاص يُشجعون على التعاطف والتحقق من المشاعر (وهو نقيض بيئة النرجسي).
المحور الخامس: القلق الاجتماعي في سياق النرجسية بالعربي والتحدي الاجتماعي
في السياق العربي، قد يزيد القلق الاجتماعي بسبب المخاوف المتعلقة بالسمعة واللغة:
١. الخوف من الغاسلايتينغ الاجتماعي:
يزداد القلق الاجتماعي بسبب الخوف من تدخل أطراف ثالثة لتأكيد رواية النرجسي (خاصة في حالات الانفصال)، مما يجعل الضحية تخشى الحديث عن أي شيء خاص بحياتها خوفاً من أن يتم تحريف كلامها.
٢. عبء الأداء الاجتماعي:
في المجتمعات التي تولي أهمية كبيرة للضيافة والمظهر، يزيد القلق الاجتماعي بسبب الخوف من عدم القدرة على الوفاء بـ “معايير الأداء” الاجتماعي المطلوبة.
الخلاصة: استعادة حق التعبير والثقة
يُعدّ القلق الاجتماعي (Social Anxiety) امتدادًا مؤلمًا لـ القلق النرجسي؛ إنه خوف مُكتسب من الحكم والنقد بعد التعرض لـ النرجسي. هذا القلق يستهلك طاقة الضحية ويُبقيها في حالة عزلة وفرط يقظة.
التحرر من القلق الاجتماعي يبدأ بالاعتراف بأن هذا القلق هو استجابة طبيعية لظروف غير طبيعية، وأن صوت النقد الداخلي هو صوت النرجسي، وليس الحقيقة. باستعادة الثقة الإدراكية من خلال العلاج المعرفي، وتهدئة الجهاز العصبي من خلال التثبيت، يمكن لـ ضحية النرجسي أن تُعيد بناء قدرتها على الاندماج الاجتماعي، وتستعيد حقها الأساسي في التعبير عن ذاتها دون خوف.
لقراءة مقالاتنا الاسبوعية

اترك تعليقاً