مشكلة فقدان الثقة الأساسية عند ضحية النرجسي

تدمير حجر الأساس: تحليل مشكلة فقدان الثقة الأساسية (Loss of Basic Trust) عند ضحية النرجسي (دراسة متعمقة في النرجسية بالعربي)


الثقة – العقد الاجتماعي الذي كسره النرجسي

تُعدّ الثقة الأساسية (Basic Trust) هي الركيزة الجوهرية التي يقوم عليها البناء النفسي للإنسان وقدرته على التفاعل الآمن مع العالم. إنها الاعتقاد البسيط وغير المشروط بأن الآخرين طيبون بشكل عام، والعالم آمن، وأن التعبير عن الضعف لن يؤدي إلى الأذى. عندما يتعرض الفرد لعلاقة طويلة الأمد ومُسيئة مع النرجسي (Narcissist)، يتم تدمير هذا العقد النفسي الأساسي بشكل ممنهج. فـ ضحية النرجسي (Victim of Narcissism) لا تفقد الثقة في شخص واحد فحسب؛ بل تفقد الثقة في قدرتها على الإدراك، وقدرة الآخرين على الأمانة، وسلامة العالم ككل.

تهدف هذه المقالة إلى تحليل مشكلة فقدان الثقة الأساسية عند ضحية النرجسي. سنقوم بتفكيك الجذور التطورية لهذه الثقة، وكيف تستخدم تكتيكات النرجسي (خاصة الغاسلايتينغ) لـ “قلب الطاولة” على الضحية، مما يحولها إلى شخص يعيش في حالة دائمة من الشك وفرط اليقظة. هذا التحليل ضروري لتمكين الأفراد الذين عانوا من النرجسية بالعربي من فهم أن فقدان الثقة هو جرح عميق للروح يتطلب معالجة شاملة للتعافي.


المحور الأول: الجذور التطورية للثقة الأساسية وتدميرها

تنشأ الثقة الأساسية في مراحل النمو المبكرة (وفقاً لنظرية إريك إريكسون) وتُعدّ الأساس الذي يبني عليه الفرد جميع علاقاته المستقبلية.

١. الثقة الأساسية مقابل سوء الظن الأساسي (Erikson’s Stage):

  • الثقة الأساسية: تتطور في مرحلة الرضاعة، وهي الاعتقاد بأن مقدم الرعاية (الأم) سيستجيب لاحتياجات الطفل بانتظام ومحبة. هذا يخلق نموذجاً داخلياً مفاده: “العالم مكان يمكن الاعتماد عليه وآمن.”
  • سوء الظن الأساسي (Mistrust): إذا كانت الرعاية غير منتظمة، أو مُسيئة، أو مُهملة، يتطور سوء الظن الأساسي.

٢. العلاقة النرجسية كـ “صدمة رجوعية” (Regressive Trauma):

  • العلاقة الطويلة مع النرجسي تُعدّ صدمة رجوعية؛ فهي تُعيد تفعيل جرح الطفولة، حتى لو كانت الطفولة آمنة. فـ النرجسي يُصبح المصدر الوحيد للـ “أمان/القبول”، ولكن قبوله مُتقطع ومُشروط.
  • الخلاصة: يتم تدمير الثقة الأساسية الناضجة واستبدالها بـ نموذج طفولي مُسيء: “الأمان يأتي فقط من الشخص الذي يؤذيني، وفي المقابل يجب أن أكون يقظًا دائمًا.”

٣. تدمير الثقة المزدوجة:

  • الثقة في الآخرين: يتم تدميرها عن طريق الكذب، والخيانة، واستغلال النرجسي الواضح.
  • الثقة في الذات (Self-Trust): يتم تدميرها عن طريق الغاسلايتينغ، حيث تُقنع الضحية بأن إدراكها للموقف، أو مشاعرها، أو ذاكرتها غير صحيح. هذا هو الجرح الأعمق.

المحور الثاني: تكتيكات النرجسي في زرع الشك الممنهج

يستخدم النرجسي آليات مصممة لإثارة الشك في كل جوانب الواقع لدى الضحية، مما يؤدي إلى انهيار الثقة.

١. الغاسلايتينغ (Gaslighting) وإلغاء الواقع:

  • الآلية: الغاسلايتينغ هو السلاح الرئيسي. عبر إنكار الأحداث (“هذا لم يحدث”) أو تحريف الرواية، يُقنع النرجسي الضحية بأنها “مجتهدة في التذكر خطأ” أو “حساسة جداً”.
  • النتيجة: تفقد الضحية الثقة في إدراكها الحسي الأساسي. إذا لم تستطع الثقة فيما تراه وتسمعه وتشعر به، فكيف يمكنها الثقة في أي شخص آخر؟

٢. التقليل من الشأن (Devaluation) وتدمير الثقة في الكفاءة:

  • الآلية: يتم التقليل من شأن إنجازات الضحية، وقدراتها، وخياراتها باستمرار. “هذا العمل الذي قمت به فاشل”، “أنتِ لستِ كفؤة لتربية الأطفال”.
  • النتيجة: تفقد الضحية الثقة في كفاءتها الذاتية (Self-Efficacy). تشعر بأنها غير قادرة على اتخاذ قرار صحيح أو تحقيق إنجاز بمعزل عن توجيهات النرجسي. هذا يعزز الاعتمادية.

٣. التوقعات المتغيرة (Moving Goalposts):

  • الآلية: يضع النرجسي قواعد ومعايير غير منطقية وغير ثابتة. بمجرد أن تنجح الضحية في تلبية معيار ما، يغير النرجسي المعيار أو يُنكر أنه طلبه أصلاً.
  • النتيجة: تُعلم هذه التجربة الضحية أن “القواعد غير موجودة” وأن “الأمان مستحيل”. هذا يُحطم الثقة في العلاقة ككيان عادل أو يمكن التنبؤ به.

المحور الثالث: عواقب فقدان الثقة الأساسية (الآثار النفسية)

فقدان الثقة الأساسية ليس مجرد عَرَض؛ بل هو المكون الذي يغذي جميع مشكلات ما بعد الصدمة الأخرى.

١. فرط اليقظة (Hypervigilance) كآلية حماية:

  • العلاقة: عندما يفشل نظام الثقة الأساسي، يتولى نظام فرط اليقظة السيطرة. العقل يظل في حالة مسح دائمة للبيئة (الأشخاص، الأماكن، الكلمات) بحثاً عن علامات الخيانة أو الإساءة.
  • التكلفة: فرط اليقظة يُبقي الجسم في وضع “القتال أو الهروب”، مما يُعطل محور الإجهاد (HPA Axis) ويزيد من أعراض C-PTSD.

٢. القلق الاجتماعي والتجنب:

  • العلاقة: تفقد الضحية الثقة في أن الآخرين يمكن أن يكونوا صادقين أو مُحبين. هذا يتحول إلى قلق اجتماعي؛ خوف من الانخراط في التفاعلات الاجتماعية خشية الحكم أو النقد (الذي كان يمارسه النرجسي).
  • العزلة: يؤدي فقدان الثقة الأساسية إلى العزلة، حيث تفضل الضحية الانفصال عن العالم كآلية دفاع ضد خيانة محتملة.

٣. الغاسلايتينغ الداخلي واللغة الداخلية المُعادية:

  • العلاقة: يُصبح الشك في الذات هو لغة داخلية ثابتة ومُعادية. تستمر الضحية في توجيه نقد النرجسي ولومه لنفسها، مما يُعزز الغاسلايتينغ الداخلي والاجترار العقلي.
  • النتيجة: عدم القدرة على بناء تقدير ذات صحي؛ حيث أن القاضي والجلاد هو الصوت الداخلي المُتقمص لصوت النرجسي.

المحور الرابع: استراتيجيات استعادة الثقة الأساسية (رحلة التعافي)

لا يمكن استعادة الثقة الأساسية بـ “محاولة الثقة”؛ بل يتم ذلك عبر بناء أدلة مادية ومنطقية جديدة على الأمان الداخلي والخارجي.

١. التفكيك المعرفي لـ الغاسلايتينغ الداخلي:

  • توثيق الواقع (Fact Journal): استخدام التوثيق المكتوب للحقائق (الرسائل، اليوميات) كـ “ذاكرة خارجية” صلبة لمواجهة الذاكرة المشوهة والشك الذاتي.
  • تحدي الفرضيات: عند بدء الشك، تحدي الفرضية: “ما هو الدليل الذي يثبت أنني لست كفؤاً؟” والرد بالأدلة المضادة (إنجازات العمل، آراء الأصدقاء الداعمين).

٢. إعادة بناء الثقة الذاتية (Self-Trust):

  • القرارات الصغيرة: البدء باتخاذ قرارات صغيرة جدًا ومُتعمدة يوميًا (ماذا آكل؟ متى أنام؟) والاحتفال بالنتائج، حتى لو كانت صغيرة. هذا يُعيد للجهاز العصبي إحساساً بـ “الكفاءة الذاتية”.
  • الإنصات للجسد: تعلم الإنصات للإشارات الجسدية (القلق، التوتر، الراحة) والثقة بها كدليل على الخطر أو الأمان (نقيض ما علمه النرجسي).

٣. بناء شبكة الأمان الصحي (Safe Relationships):

  • التعرض التدريجي: البحث عن علاقات صداقة أو مجموعات دعم (مجموعات الناجين) تتسم بـ الشفافية، والتحقق العاطفي (Validation)، والاحترام. هذه التجارب الجديدة تُقدم “أدلة مُضادة” بأن العالم يمكن أن يكون آمناً.
  • اختيار الثقة كـ “قيمة”: اختيار الثقة في الآخرين بشكل واعٍ (بعد فترة تقييم طويلة) كقيمة أساسية للعيش، مع وضع حدود واضحة كـ “ضمانة” لحماية الذات.

المحور الخامس: فقدان الثقة الأساسية في سياق النرجسية بالعربي

تتفاقم مشكلة فقدان الثقة الأساسية في هذا السياق بسبب الروابط العائلية والمجتمعية القوية.

١. الشك في النظام العائلي ككل:

  • الخطر: إذا كان النرجسي جزءاً من شبكة عائلية واسعة أو ذات سلطة (في سياق الزواج)، فإن فقدان الثقة لا يقتصر عليه؛ بل يمتد ليشمل النظام العائلي الذي سمح بالإساءة أو أنكرها.
  • التحرر: يجب على الضحية أن تتقبل أن إعادة بناء الثقة قد تتطلب الابتعاد التام ليس فقط عن النرجسي، بل عن أفراد العائلة الذين رفضوا تصديقها أو مارسوا الغاسلايتينغ الاجتماعي عليها.

٢. تحدي الابتعاد التام والشك في القدرة:

  • النتيجة: الخوف من المجهول وفقدان الثقة في القدرة على البقاء بمفردها (التي زرعها النرجسي) هو ما يجعل الضحية تتردد في تطبيق الابتعاد التام، رغم إدراكها لسميّة العلاقة.
  • الحل: بناء الاستقلال المالي والمعرفي قبل التحرر النهائي هو حجر الزاوية في استعادة الثقة بالقدرة على النجاة.

الخلاصة: استعادة سلطة الإدراك الذاتي

إن فقدان الثقة الأساسية (Loss of Basic Trust) هو الوباء النفسي لـ ضحية النرجسي؛ إنه نتيجة التدمير المنهجي للثقة في الذات وفي العالم. هذا الفقد هو ما يغذي فرط اليقظة، والقلق الاجتماعي، والغاسلايتينغ الداخلي.

التعافي يبدأ بالاعتراف بأن فقدان الثقة ليس عيباً، بل هو جرح صدمي ناتج عن الخيانة. باستعادة سلطة التوثيق للواقع، والتعرض التدريجي لبيئات آمنة، وبناء الثقة الذاتية عبر القرارات الصغيرة، يمكن لـ ضحية النرجسي أن تُعيد بناء إحساسها بالأمان. استعادة الثقة الأساسية هي عملية إعادة كتابة للقواعد: “العالم ليس مثالياً، لكنني قوي بما يكفي لأحميه وأثق في إدراكي لذاتي.”

شارك هذه المقالة

لقراءة مقالاتنا الاسبوعية

Comments

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *