إن العلاقة مع الأم النرجسية تترك في النفس جروحًا عميقة، لا تقتصر على الألم العاطفي، بل تتجاوزه إلى إعادة برمجة طريقة تفكيرك، وشعورك، وتعاملك مع العالم. إن الأم النرجسية لا تربي ابنتها، بل تحاول أن تجعلها امتدادًا لها، ونسخة مكررة منها، وهذا ما يُعرف بـ التماهي النفسي (Enmeshment).
في هذه الحالة، تفقد الابنة حدودها النفسية، وتتلاشى هويتها، وتصبح مشاعر الأم أهم من مشاعرها، ورأيها أهم من رأيها. إن هذا التماهي يترك في النفس شعورًا بالخزي، والذنب، وعدم الكفاية، ولكن الحقيقة هي أن هذا ليس عيبًا فيكِ، بل هو نتيجة لأسلوب تربية قاسٍ وغير صحي. في هذا المقال، سنغوص في أعماق هذا التماهي النفسي، وسنكشف عن آثاره المدمرة، وسنقدم لكِ أدوات عملية للتحرر من هذه السلاسل، وبناء “أم داخلية” تحبكِ بدون شروط.
التماهي النفسي: كيف تذوبين في هوية الأم؟
التماهي النفسي هو حالة من انعدام الحدود بين الأم وابنتها، حيث تفقد الابنة إحساسها بكيانها الخاص. إن مشاعر الأم، وأفكارها، وقراراتها، تصبح هي الأساس الذي تُقاس عليه مشاعر الابنة وأفكارها.
- محو الهوية: الأم النرجسية تمنع ابنتها من التعبير عن رأيها، أو شعورها، أو حتى اختيار طعامها. إنها تحاول أن تجعل الابنة نسخة منها، وهذا يمحو هويتها تدريجيًا.
- الخضوع: الابنة تتعلم أن عليها أن تخضع لرغبات الأم لتجنب الصراع أو الغضب. هذا الخضوع ليس حبًا، بل هو استراتيجية للبقاء.
- العبء العاطفي: الأم النرجسية تلقي بالعبء العاطفي على ابنتها. إنها تشاركها مشاكلها، وتجعلها تشعر بالمسؤولية عن سعادتها.
إن هذا التماهي يترك الابنة في حالة من الصراع الداخلي المستمر بين ما تشعر به حقًا، وما يُفترض بها أن تشعر به بناءً على رغبات الأم.
صوت الأم الداخلية: حوار ينهك الروح
بعد سنوات من التماهي، لا يقتصر تأثير الأم النرجسية على الوجود الخارجي، بل يمتد إلى الداخل. يتشوه صوتك الداخلي، ويصبح عبارة عن تسجيلات لصوت الأم، تتردد في عقلك في كل لحظة.
- جلد الذات: عندما تشعرين بالتعب، يقول لكِ الصوت الداخلي: “توقفي عن الدلع. الناس تعبانة أكثر منك”.
- الخوف من الفرح: عندما تفرحين، يقول لكِ الصوت الداخلي: “لا تفرحي كثيرًا، هذا لن يدوم. الدنيا زائلة”.
- الدراما: عندما تحزنين، يقول لكِ الصوت الداخلي: “أنتِ درامية، وممثلة، ومبالغة”.
هذا الصوت الداخلي ليس صوتك. إنه صوت الأم النرجسية الذي زُرع فيكِ. والمؤلم هو أنكِ تصدقينه، وتعيشين على أساسه.
رحلة العلاج: بناء “الأمومة الذاتية”
الخروج من هذه الدائرة يتطلب رحلة علاجية عميقة. إن الجروح التي زُرعت في الطفولة لا تختفي، بل يجب أن نعود ونعتني بالطفل المجروح في داخلنا. هذا ما يُعرف بـ إعادة تربية النفس (Reparenting)، أو الأمومة الذاتية.
- دفتر الأم الداخلية: خصصي دفترًا تكتبين فيه رسائل دعم لنفسك. اكتبي لنفسكِ ما كنتِ تتمنين أن تقوله لكِ أم حقيقية. اكتبي: “أنا أراكِ. أنا أشعر بتعبكِ. أنتِ لستِ مبالغة. أنتِ محتاجة للحضن، وأنا هنا لأفعل ذلك”.
- حوار الكرسيين: هذا التمرين يساعدكِ على التواصل مع طفلكِ الداخلي. اجلسي على كرسي، وتخيلي نفسكِ وأنتِ طفلة صغيرة على كرسي آخر. تحدثي معها بحنان، ورحمة، وحب، واستمعي إليها. هذا الحوار يساعد على شفاء الجروح القديمة.
- العلاج المعرفي البنائي: هذا النوع من العلاج يساعدكِ على تغيير الأفكار السلبية التي زُرعت فيكِ. من خلاله، تتعلمين كيف تفصلين بين صوتكِ الحقيقي وصوت الأم الداخلية، وكيف تبنين صوتًا داخليًا جديدًا، صوتًا رحيمًا وداعمًا وواقعيًا.
الخلاصة: أنتِ تستحقين الحب غير المشروط
إن النجاة من الأم النرجسية ليست انتصارًا نفسيًا فقط، بل هي إعادة ولاء من بنت كانت تحاول أن تكسب حضنًا إلى بنت عرفت كيف تحضن نفسها بنفسها. إنها تحول من صوت داخلي يقول “أنا لست كافية” إلى صوت جديد يقول “أنا كافية كما أنا”.
صدقيني، أنتِ لستِ وحدكِ. كل مرة تختارين فيها نفسكِ، فإنكِ تكسرين حلقة قديمة، وتبنين حياة جديدة تستحقينها بكل حب.
