يُعتقد أن أفكارنا هي التي تشكل واقعنا، وفي علم النفس، كما في علم الاقتصاد، هناك مصطلحات حاسمة تصف هذه الديناميكية: عقلية الندرة وعقلية الوفرة. إن عقلية الندرة هي الاعتقاد بأن الفرص محدودة، وأن الخير في هذا العالم قليل، وأن الحياة لها “تاريخ صلاحية”. هذه العقلية هي البوابة التي يدخل منها النرجسيون والمتلاعبون إلى حياتك، لأنهم يرون فيها نقطة ضعف يمكن استغلالها.
إن النرجسي يرى المرأة، على وجه الخصوص، ككيان محدود بفترة زمنية معينة. يرى في سن الأربعين أو الخمسين “نهاية” للفرص، وكأنها سلعة فقدت قيمتها في السوق. هذا التصور المشوه ليس وليد الصدفة، بل هو استغلال لواقع اجتماعي غالبًا ما يضغط على المرأة لكي تتزوج في سن مبكرة. ولكن هذا الفكر لا يقتصر على الزواج فحسب، بل يمتد إلى كل جوانب الحياة، من العمل إلى العلاقات، مما يجعل من تبني عقلية الندرة فخًا يدمّر حياتك.
عقلية الندرة: الفخ الذي يدمر الذات
عندما تتبنى عقلية الندرة، فإنك تقتنع بفكرة أن الخير قليل، وأن الفرص محدودة. هذا الفكر المحدود يجعل من يتبناه أكثر عرضة للاستغلال. فالمرأة التي تعتقد أن فرصها في الزواج تقل مع تقدمها في العمر قد تتنازل عن حقوقها، وتقبل بشريك سيء، فقط لتجنب وصم “العنوسة” المرفوض اجتماعيًا.
هذه العقلية السلبية ليست مجرد فكر، بل هي قوة مدمرة تنهك الروح والعقل:
- التنازل عن الحقوق: الشخص الذي يتبنى عقلية الندرة غالبًا ما يتنازل عن حقوقه الأساسية. إنه يغض الطرف عن الإساءة، ويتحمل السلوك السيء، ويقبل بأقل مما يستحق، لأنه يعتقد أن هذه هي فرصته الوحيدة.
- الخوف من الفوات: الخوف من أن “تفوتك” الفرصة يجعل الشخص يتخذ قرارات متسرعة وخاطئة. هذا الخوف يجعله ينجذب إلى النرجسي الذي يظهر وكأنه فرصة عظيمة، بينما هو في الحقيقة مجرد وهم.
- تدني احترام الذات: عقلية الندرة تجعل الشخص يرى نفسه ككيان ناقص. إنه يقتنع بأنه لا يستحق الأفضل، وأن عليه أن يقبل بأي شيء يأتيه. هذا الشعور يؤدي إلى تدني احترام الذات، مما يجعله فريسة سهلة للمتلاعبين.
- التركيز على السلبيات: الشخص الذي يتبنى عقلية الندرة يركز على السلبيات في حياته. يرى أن كل شيء يسير بشكل خاطئ، ويتجاهل كل النعم والفرص الموجودة. هذا التفكير التشاؤمي يمنعه من رؤية الجانب المشرق من الحياة، ويجعله يعيش في حالة من اليأس.
عقلية الوفرة: مفتاح النجاة والحرية
على النقيض تمامًا، تأتي عقلية الوفرة. هذه العقلية هي الإيمان بأن الخير موجود بوفرة، وأن الفرص لا نهاية لها، وأن الرزق بيد الله. هذا الفكر ليس مجرد تفاؤل أعمى، بل هو إيمان عميق بقوة الخالق وقدرته على العطاء.
عندما تتبنى عقلية الوفرة، فإنك تبدأ في رؤية العالم بشكل مختلف:
- احترام الذات: عقلية الوفرة تجعلك تحترم نفسك وتؤمن بقيمتك. أنت تدرك أنك كائن مكرم من الله، وأنك تستحق الأفضل. هذا الاحترام يمنعك من التنازل عن حقوقك أو القبول بشريك سيء.
- اختيار الشريك بحكمة: الشخص الذي يتبنى عقلية الوفرة لا يوافق على أي شريك. إنه يختار شريكًا محترمًا، يتقي الله، ويستحق الثقة. إنه يؤمن بأن الرزق بالزوج الصالح ليس محدودًا بسن معينة، بل هو بيد الله وحده.
- بناء الذات: عقلية الوفرة تدفعك إلى بناء حياتك الخاصة. تركز على تعليمك، وعملك، وصحتك، وعلاقتك بالله. هذا البناء يجعلك شخصًا قويًا، مستقلًا، وواعيًا، مما يجعلك غير مرئي للنرجسيين، الذين ينجذبون فقط إلى الضعفاء.
- الاستعانة بالله: الإيمان بأن الله هو الرزاق يحررك من الخوف. عندما تدرك أن رزقك ليس بيد البشر، فإنك لا تخاف من فقدان وظيفة، أو شريك، أو أي شيء آخر. هذا الإيمان يمنحك قوة داخلية لا يمكن لأي نرجسي أن يسيطر عليها.
الدروس التي يجب أن نتعلمها: من الوهم إلى الحقيقة
إن تجربة العلاقة النرجسية هي بمثابة درس قاسٍ، ولكنه يمنحك حقائق لا تُنسى:
- لا ترمِ بنفسك في النار: لا تختار شريكًا سيئًا لمجرد الخوف من البقاء وحيدًا.
- الزواج ليس فرضًا: الزواج سنة الحياة، ولكنه ليس فرضًا إلهيًا. هناك طرق كثيرة لتكون سعيدًا وناجحًا في الحياة.
- لا تتبع كلام الناس: لا تهتم بما يقوله الناس عنك أو عن حياتك. ما يهم هو رضا الله عنك، ورضاك عن نفسك.
- لا تكن تابعًا: لا تسمح لأي شخص أن يجعلك تابعًا له. استقلاليّة شخصيتك هي درعك الواقي.
- التربية السليمة: علم بناتك وأبناءك أن الحب لا يقتصر على الزواج، وأن قيمتهم الذاتية لا تنبع من علاقة مع رجل أو امرأة، بل من وجودهم كبشر.
بناء حياة جديدة: رحلة اللا محدودية
إن رحلة التحرر من عقلية الندرة إلى عقلية الوفرة هي رحلة طويلة وصعبة، ولكنها تستحق كل جهد. إنها تبدأ بالوعي بأن الأفكار التي تتبناها هي التي تشكل واقعك. ابدأ في تغيير هذه الأفكار، وستجد أن حياتك تتغير معها.
- فكر في نفسك كقيمة: تذكر أن الله سبحانه وتعالى كرمك، وأن ذاتك لها قيمة لا تُقدر بثمن. لا تسمح لأي شخص أن يسرق منك هذه القيمة.
- استثمر في ذاتك: تعلم، واقرأ، وطور مهاراتك. كلما زادت معرفتك، زادت ثقتك بنفسك، وقلّ خوفك من المستقبل.
- ابنِ علاقة قوية مع الله: الصلاة، والدعاء، والتأمل، هي أدوات قوية لتقوية إيمانك، وتذكيرك بأن الرزق بيد الله.
- تجنب البطر على النعمة: عقلية الوفرة لا تعني البطر أو الغطرسة. إنها تعني أن تختار الشريك المناسب بحكمة، ولكن دون أن تتكبر أو تسيء التقدير.
في الختام، إن خلاصة الكلام هي أن لا ترمِ نفسك في النار. لا تختر أي شيء فقط لتجنب الوحدة أو الخوف. الله سبحانه وتعالى كرمك، وأنت لست بحاجة للاختباء. أنت بحاجة للعيش بما يرضي الله، وأن يكون لديك ثقة في الله، ثم في نفسك.
